بيار أبي صعب
الأستاذ عبقر متضايق جداً. وغاضب أيضاً. وقد استلّ يراعته في الأمس ليعبّر عن عميق احتجاجه، مؤنّباً معاصريه، موجّهاً إصبع الاتهام الى الواقع الثقافي العربي! خير؟ ممّ يشكو هذا الواقع الثقافي العربي اللعين الذي أخرج الأستاذ عبقر عن هدوئه المعتاد، وحياده الأسطوري؟ ولو، ألا تعرف؟ يشكو من آفة خطيرة، بل اسمح لي أن أقول فتاكة، هي... “ثقافة الإلغاء”. نحمد الله على أن زميلنا هنا بالمرصاد، متربّص بالهنات والشوائب، كي يجعلك تعي أخيراً الواقع الأليم الذي أغفلته كل هذا الوقت، بسبب استلابك الفكري والسياسي والأدبي.
إنه “الإلغاء” نعم! المثقف العربي لا يفكر إلا في شيء واحد: إلغاء الآخر. هذا همّه وهذا مشروعه. لكن الوقت حان كي يأتي من يعرّيه ويكشفه على حقيقته! وهذه المهمّة تنطّح لها الأستاذ عبقر، أخونا وحبيبنا، بكل ثقة، ومن دون أن يرفّ له جفن، هو الذي لم يلغ أي آخر في حياته.
تفصيل الحكاية أن منقذكم من الضلال كان يتصفّح مجلة شعرية فرنسية، حين أصيب بالذهول وانتابته مرارة عميقة، فسقطت من يده و... أُسقط في يده. المجلة التي لم يسمع بها أي من قرّاء عبقر السعداء الحظ، خصصت على ما يبدو ملفاً للشعراء السوريين. ولكن يا للهول، لقد “ارتكبت خطأ ــ لن أقول (ضمير المتكلم عائد لعبقر طبعاً) فادحاً ــ في اختيارها أسماء وإسقاطها أسماء يصعب إسقاطها أو إقصاؤها. والخطأ ليس بريئاً حتماً، ما دام قد شارك في الاختيار شخصان سوريان، إضافة الى معدّ الملفّ الفرنسي...”.
كان يهمّ القارئ أن يعرف اسم “الشخصين السوريين” اللذين شاركا في الاختيار الآثم، كي يضعهما على القائمة السوداء. لكن الكاتب النبيل عمد الى “إلغائهما”، حفاظاً عليهما من غضب الجماهير (جماهير قرّائه). ولعلّ عبقر استمرأ لعبة الإلغاء تلك، فلم يكشف عن أسماء الشعراء المترجمين الى لغة موليير، بل اكتفى بإشارة في منتهى الدقّة: “أحد عشر شاعراً سورياً من أجيال عدّة، بعضهم يستحق الحضور وبعضهم لا يستحق”. القارئ الذي اعتاد شجاعة أستاذ عبقر الفكرية، كان بودّه أن يعرف: أي الشعراء برأيه لا يستحق الحضور في الملف؟ لكن “الإلغاء” طاول هؤلاء المتطفّلين، قصاصاً على تطفّلهم ربّما، أو لحمايتهم من الاستهزاء الجماعي.
آه كدنا ننسى: الأستاذ عبقر يشرف على صفحة ثقافية حيّة ومتحركة، أبعد ما تكون عن فلسفة الإلغاء. تراهن على استقطاب كل ما هو جديد، وخلّاق، ومغاير، وطليعي، وشبابي، ومعاصر، وغير مكرّس، في الحياة الثقافية العربية.