رنا حايك
قبل أشهر نشرت La CD-thèque في بيروت الترجمة العربية لمجموعة شرائط مصوّرة تحمل توقيع الفنانة الإيرانية مرجان ساترابي، بعنوان «برسِبوليس». هنا قراءة متأخرة لعمل إشكالي يتناول في لغة شاعرية وأسلوب ذاتي، مرحلة صاخبة من التاريخ الإيراني الحديث
«في استطاعة المرء أن يسامح، لكن عليه ألا ينسى أبداً». الفنانة الإيرانية مرجان ساترابي لم تنس، لكنها أيضاً لم تسامح. وطنها الحقيقي تبحث مرجان عنه في الماضي البعيد، في برسبوليس القديمة، مدينة الفرس وعاصمة ملوك إيران التي أشعل الإسكندر فيها النار بعد هزيمته على يد داريوس الثالث.
«برسبوليس» مشروع يصعب تصنيفه. إنه عبارة عن سيرة ذاتية مرسومة من أربعة أجزاء. عمل ساترابي الغرافيكي يتميّز بهويّة خاصة، إذ تنهل بحرية من التراث البصري الإسلامي والفارسي على السواء، وتنتمي في الآن نفسه الى أحدث تجارب فنّ «الشرائط المصوّرة» في العالم. صدرت الألبومات الأربعة بين عامي 2000 و2003 عن دار «لاسوسياسيون» الفرنسية المتخصصة في نشر الاتجاهات البديلة في مجال «الشرائط المصورة». ولم تلتفت دور النشر في العالم العربي الى هذه التجربة الجريئة والسجاليّة، شكلاً ومضموناً. الى أن خاضت المغامرة دار نشر مستقلّة في بيروت، هي بالأساس شركة توزيع أسطوانات، انفتحت لاحقاً على الكتب وعلى نشاطات النشر. قامت شركة «لاسيديتك» La CD-thèque اللبنانية التي تعنى بإنتاج جميع أشكال الثقافة البديلة وتسويقها، بترجمة الجزءين الأولين من «برسبوليس»، لتكون أوّل دار نشر في المشرق، تكرس حيزاً مستقلاً لهذا النوع الأدبي - الفني في لغة الضاد.
ولدت ساترابي في طهران عام 1969 لأبوين ناشطين سياسيّاً، وشهدت في طفولتها مراحل مفصلية من تاريخ إيران بدأت مع آخر أيام حكم الشاه وانتهت بقيام الجمهورية الإسلامية. وفي عام 1984، أرسلت تلميذة الليسيه الفرنسية الى فيينا، لإبعادها عن الحياة في ظل نظام الحكم الجديد. لم تكن ساترابي لتفكر بسرد حياتها في شريط مصور، لولا الصدف التي جمعتها بـدافيد ب، عام 1994 في فرنسا حيث اختارت أن تستقر. دافيد. ب أدخلها إلى عالم الشرائط المصورة البديلة. ومثلما سرد دافيد ب تاريخ أسرته في ستة مجلدات مصورة، من خلال نقطة محورية هي إصابة أخيه بمرض الصرع، سردت ساترابي تاريخ بلدها وعائلتها والطفلة التي كانتها، بالأبيض والأسود، في «برسبوليس». هناك في الألبومات معادلة دقيقة بين الحبر الأسود والمساحة البيضاء، تعكس بشكل واضح تأثرها بصاحب «مريض بالصرع». تتألف النسخة العربية من 19 فصلاً، بدءاً بـ«الحجاب» الذي فرضته الثورة على الإيرانيات عام 1979 وامتثلت الكاتبة له، وتنتهي بـ«المهر» الذي أشيع أن السلطة تمارسه وتسبّبَ بهجرتها من إيران. تستعرض الكاتبة حاضرها العاصف بالأحداث، من تظاهرات ضد الشاه في مرحلة أولى، ثم ضد الحكم الإسلامي الذي تبعه. وتستعيد بأسلوب الفلاش باك تاريخ أسرتها، بدءاً من جدها الذي كان أميراً قبل أن يسقطه الشاه ويسجنه ويعذبه في «غرفة الماء»، وصولاً إلى عمها الشيوعي المنفي إلى موسكو. بينما تقدم تحية للمناضلين والكتّاب الذين قاوموا مختلف حقبات القمع التي عرفتها إيران.
تتخبط الطفلة في مواجهة عالم متغير، وتختلط عليها القيم والثوابت التي تتبدل بين لحظة سياسية وأخرى لتلائم التحولات الجذرية في إيران: المعلمة ذاتها التي لقنت التلميذات أن الملك مختار من الله، غيّرت رأيها بعد نفيه وطلبت منهن تمزيق الصفحة التي تفيد بذلك في المنهج الدراسي. بينما تهتز في نظرها صورة الأب الذي يبدو بورجوازياً متخاذلاً أحيانًا رغم ثوريته. فآباء صديقاتها عذبوا وسجنوا، بينما أبوها «لم يكن بطلاً». وبعدما ربّاها هذا الأب التقدمي على قيم المساواة، تدخّل لوقف قصة الحب التي ربطت خادمتها بإبن الجيران الغني، معللاً ذلك بـ«أن الناس في هذا البلد يجب أن يجاوروا أناساً من محيطهم الإجتماعي». وذات يوم تقرر الأم إرسال ابنتها إلى فيينا، بعدما فشلت في كبح جماح تمردها على الواقع الإيراني.
التشويش نفسه يصاحب علاقة ساترابي مع الله. فهو صديقها وهي نبيته لكنه يختفي حين تسرّ له في إحدى خلواتهما بأنه يشبه كارل ماركس. يزورها مجدداً بعد فترة، محاولاً احتواء غضبها وحزنها اثر إعدام عمها وبطلها الشيوعي، فتصب جام غضبها عليه وتطرده نهائياً من حياتها. تشكّل هذه اللحظة المفصلية لحظة القطيعة بين ساترابي والدين.
هكذا تختار الفنانة من حياتها المحطّات المفصلية، المشحونة سياسياً وإنسانياً، وتوظفها بمهارة في السياق الدرامي، معتمدة أسلوباً بالغ البساطة والشعرية، غالباً على شكل حوار: «كنت أرغب أن أصير نبية، لأن خادمتنا لم تكن تجلس إلى المائدة معنا، لأن أبي كان يملك سيارة كاديلاك، وخصوصاً لأن جدتي كانت تعاني ألماً في ركبتيها». وهذه الطفلة التي بدأت قصتها بحلم النبوة أنهتها بالتمرد على «ديكتاتورية أمها» في الفصول الأخيرة من الكتاب، حين أشعلت أول سيجارة في حياتها في الملجأ خلال الحرب الإيرانية العراقية فـ«صارت كبيرة».
مرجان ساترابي شاهدة على فساد الطبقة الاجتماعية الراقية خلال عهد الشاه، وتعرف جيّداً أن تلك الطبقة كانت احد أسباب الشحن الذي أدى بالشعب إلى القيام بالثورة. لكنها تصوّر شخصيات المجتمع المخملي في إيران أيام الشاه، كشخصيات تقدمية، ايجابية غالباً. أما الثورة الإسلامية، فلا ترى منها سوى وجهها السلبي، وهذا حقها طبعاً. وهذه النظرة الاختزالية في أحد جوانبها، قد ترتبط في جانب منها بردّ فعل عنيف على تجربة شخصية وجماعية مريرة، لكنّها قد تستمد زخمها أيضاً، من الخطاب التبسيطي السائد في الغرب ازاء الثورة الايرانية... هذا الغرب الذي اختارته الفنانة مكان اقامة، وفيه أنتجت ألبوماتها هذه.
لكن تلك النظرة الراديكالية، الى ثورة راديكالية بدورها ـ إن ارتبطت ببعض التنازل التسويقي أم لم ترتبط ـ لا تقلل أبداً من قيمة هذا العمل السجالي والإشكالي الذي يحمل إضافات جمالية وأدبية وإنسانية ثمينة. ألبومات «برسبوليس» تستحق الاهتمام والقراءة برسومها وحواراتها. ونقلُها الى العربية مبادرة شجاعة وحيوية تستحق التحية والثناء (الترجمة تحمل اسماً مستعاراً: “مهيار”). والكتاب الذي يقتبس منه حالياً «فيلم تحريك» (animation)، موزّع في مصر، بينما منعته الرقابة في سوريا.