حسين بن حمزة
في مجموعته الجديدة «انتبه إلى ربما» (دار ورد)، يسلّط عادل محمود إلى الواقع نظرة مواربة وخفية ومدفونة تحت سطح القصيدة. هنا إطلالة على تجربته التي تنحدر من جيل السبعينيات في الشعر السوري

عادل محمود أحد الشعراء السوريين الذين أحضروا الحياة الحقيقية إلى القصيدة، وأدخلوا تفاصيل العيش العادية إلى المشهد الشعري السوري الذي غالباً ما كانت تحتله لغة عالية الأصوات وبلاغة فصيحة وأيديولوجيات راسخة ومنتجات سياسية ومضمونية.
هناك منعطف شعري حاسم، قاده عدد من شعراء السبعينيات في سوريا: نزيه أبو عفش، بندر عبد الحميد، منذر مصري، ورياض الصالح الحسين (توفي عام 1982)، إضافة طبعاً إلى عادل محمود. هؤلاء جاؤوا بعد محمد الماغوط، ومشوا على خطى رائد هذا النوع من الممارسة الشعرية التي سُميت “القصيدة الشفوية” أحياناً، و “قصيدة التفاصيل” أحياناً أخرى.
“انتبه إلى ربما” (دار ورد ــ دمشق 2006)، مجموعة جديدة لعادل محمود، هي السادسة بعد “قمصان زرقاء للجثث الفاخرة “ (1979) و“ضفتاه من حجر” (1981) و“مسودات عن العالم” (1982) و“استعارة مكان” (2000) و“حزن معصوم عن الخطأ” (2003). نبرة المجموعة تذكّر بأجواء العملين السابقين للشاعر. ويعود هذا الشبه والتقارب، على الأرجح، إلى أن عادل محمود توقف عن كتابة الشعر حوالى 17 عاماً، وحين عاد مع “استعارة مكان” أخذه الشعر إلى فضاءات مختلفة، إلى حد ما، عن مناطق وأجواء قصيدته التي عُرف بها في انطلاقته الأولى. والواقع أن فترة انقطاع الشاعر عن الكتابة تكاد تقسم سيرته الشعرية إلى قسمين مختلفين، حيث نجد في مجموعاته الثلاث الأولى قصيدة قصيرة، تفصيلية، يومية، وقائعية، تستدرج القارئ بسرعة إلى خاتمة مفاجئة ومدهشة. بينما نجد، في مجموعاته الثلاث اللاحقة، لغة عادل محمود نفسها. لكنها لغة ذاهبة هذه المرة إلى قصيدة أوسع مساحة، وأكثر ميلاً إلى الحكمة والتأني، وأكثر اكتراثاً بخلاصات فلسفية وحياتية ينحاز إليها الشاعر في زمن صار مطلوباً فيه أن يعلن المثقف موقفه مما يحدث الآن.
لا يكتب عادل محمود سياسة مباشرة بالطبع، لكنه يمرّر السياسة مواربةً وخفيةً ومدفونةً تحت سطح القصيدة، ونجد ذلك في قصائد “الجندي” و”الاستقبال” و”اليتيمة” و“العدو” في مجموعته الجديدة. والواقع أن هذا الانحياز قديم لدى الشاعر، ولكنه يعلو ويحضر أكثر في أعماله الأخيرة. “القصيدة ليست لعباً، وأنا شخص يحاول أن يفعل شيئاً”، يقول عادل محمود، مضيفاً: “يمكن للشاعر أن يغشّ جمهوره لكنه لا يستطيع أن يغش نفسه على وسادته”. مع ذلك قد لا يبدو عادل محمود أكثر من شاعر حب بالمعنى العميق والثري للكلمة. الحب بطل قصائد كثيرة في مجموعاته كلها. حب ممزوج بطبيعة ريفية وساحلية أصيلة مستدرجة من طفولته وأمكنته الأولى، مضافاً إليها، هنا وهناك، نتفٌ ومعانٍ من مدنٍ مستجدة ومتغيرة مع التقدم في السن والتجربة والحياة.
مجموعات الشاعر الأولى ليست متوافرة بين أيدينا لكي نعاين بدقة التبدلات التي طرأت على كتابته، سواء التبدلات الحاسمة منها أو تلك الطفيفة. لكن يمكن القول إن النثرية اليومية التي كانت استثماراً شعرياً ناجحاً لعادل محمود وأقرانه في السبعينات، تتحول في مجموعاته الأخيرة إلى سرد شعري. وهذا يعني أن بعض القصائد باتت أطول.
لم تتغير نبرة عادل محمود الخافتة كثيراً، ذلك أن المواد نفسها التي تدخّلت في صناعة تلك النبرة لم تتغير هي الأخرى. الفارق هو أن القارئ لم يعد موعوداً بالكثافة السابقة. ربما لم تكن الكثافة أحد مشاغل قصيدة عادل محمود... غير ان هذه القصيدة كانت مقتضبة وقصيرة تضمّ صوراً مدهشة أو تنتهي بقفلة تحمل شعرية المقطع كله.
حتى عندما كان الشاعر يكتب أعمالاً طويلة كما هو الحال في مجموعتيه “ضفتاه من حجر” و”مسودات عن العالم”، فقد كانت تلك الأعمال مؤلفة من مقاطع قصيرة ومكتفية بنفسها، بحيث يمكن اعتبارها قصائد قصيرة منفصلة يجمعها عنوان واحد.
في مجموعته الجديدة، سيعثر القارئ على صور واستعارات شعرية تذكر بنكهة قديمة، لكنها مبعثرة وموزعة على مساحة المجموعة ككل، وليست مضمومة في قصيدة واحدة. هكذا يمكن أن نقرأ: “حين يصطفق الحنين على الأبواب / أشياء مبعثرة لبنات / كنزات صوفية تنسى على الأرائك أحياناً / مخلفةً صوت رائحة لآباطٍ تدفأت في عناق عجول”، أو “ثمة في الظلال / من يفكّ أعمارنا / ويفلتُ من حظائرها الباقيات / كل وحوش الزمن”، أو “يحلمون بأن يكونوا متجاورين / كالأزهار في الشرفات”.