بيسان طي
“سنعود بعد يومين أو ثلاثة، عندما تهدأ الشوارع ويستتب الأمن. لعلنا أيضاً ننجز وعدنا للشباب بزيارة الزهراء”. قال صاحب راوي قرطبة، فردد الأخير “الزهراء، لا بأس، فلنكحل العيون بما بقي من مجدنا ومجدها”. هكذا تنتهي القصة في رواية الفلسطيني عبد الجبار عدوان، وهكذا انتهت القصة في الواقع في التاريخ العربي. كحل العرب عيونهم بنظرة أخيرة إلى الزهراء، ثم راحوا يؤرخون للهزائم وقرون الاستعمار والظلام، ويبكون مجد الأندلس الضائع.
لكن عبد الجبار عدوان لم يكتب في “راوي قرطبة” رواية الرثاء أو البكاء على الأطلال. كتابه عن الأندلس يعيد إلى الأذهان حكاية ضياعها، قصة الخلافات الطائفية التي دبّت بين العرب منذ الفتنة الأولى في الأندلس بين الفاتحين من عرب الشمال وعرب الجنوب والبربر، وحكايات الفساد والحروب التي لا طائل منها. يبدأها بفصول عن قرطبة حاضنة العلماء ومقصد الباحثين عن العلم.
كرّس المؤلف أكثر من عامين لمراجعة الكتب وزيارة مواقع الأحداث. وهو جهد نتائجه واضحة. فالرواية الصادرة عن “دار الفارابي”، غنية بالتفاصيل الجغرافية والتاريخية، صحيحة في استعارتها أو نقلها للأحداث كما جرت في القرن الهجري الرابع.
صدرت في التوقيت المناسب، مع احتدام الصراعات الطائفية في العراق. تشبه أحداثها ما نعيشه اليوم في العالم العربي، من تفتت السلطة وتزايد المحسوبيات والتلهي بالبحث عن أعداء وهميين ونسيان العدو الحقيقي.
يحكي عدوان في روايته عن احتدام الخلافات في حاضرة الأندلس، ويروي أيضاً ما شهدته مصر وصقلية وبلاد الفرنجة في تلك الفترة من الزمن. واعتمد عبد الجبار عدوان أسلوباً هو أقرب إلى أدبيات ذلك العصر.
تاريخ منسي
بطل الرواية سليمان بن أسعد باهر بن عبد الرحمن القلعي المولود في قرطبة في عهد الحكم المستنصر بالله ابن الخليفة الناصر. هو ابن عائلة مقربــــــــــة من الخلفاء، أتقن جده علم الرواية وتسجيل التاريخ، وورث هو عنه هذه المهنة. وينقل عن جده قوله له بأن يحفـــــــــــظ في مكتبته الخاصة كل التفاصيل التي يشهدها، فلـــيس كل ما يحدث يُنشر.
ويقول «لدينا الروايــــــة الرســــــــــمية العلنية التي تُقال لتـــــــــــــناسب الأمراء والخلفاء، من دون الــــــــــــتزامنا بهذا النهج لم نكن لنصل إلى مصدر الأخبار في دواوين الأمراء والملوك... هــــــــــناك نهج الكتابة شبه الرسمي، وهو على شاكلة قصص شعــــــــــــبـــــــية وروايات بطولية وغرامية وأساطير عن الجن والكنوز والحكماء والعلماء... لكننا نخط الرواية الحقيقية، جزء كبير منها لم يكن ســـــــــراً وتداولها الناس في حينه، لكن الأمراء والوزراء والخلفاء والحجّاب لا يريدون سماعها».
سليمان هو “راوي قرطبة” المقرب من الأمير هـــــــــــشام الطـــــــــــفل وولي العهد، وابن الجارية الأقرب إلى قلب أبيه.
يُطلعنا الكاتب الفلسطيني من خلال رواية سليمان على تاريخ ما لم يُحك في ذلك الحين.
ويوغل الكاتب في نقل تفاصيل الحياة الاجتماعية في قرطبة، فتزخر بعض فصول الرواية بحكايات عن عادات الزواج والطهور والضيافة وغيرها، ويروي أيضاً حكايات الفتن الدينية والسياسية، ويسلّط الضوء على مجريات المعارك وسياسة جمع الغنائم وانعكاساتها السلبية في معظم الأحيان. ولا يغفل دور الجواري والمسبيات، إذ يذكّر بأنه كانت لبعضهن مكانة خاصة وكلمة مسموعة من الخلفاء، وتولى أبناؤهن الخلافة.
أمينة الرواية في نقل الأحداث، وثرية في تـــــــــفاصـــــــيلها وصحيحة في ما تحكي عن زمن بعيد مشرع على عصرنا. لكـــــــنهـــا أقرب إلى الكتاب الأكاديمي الموثق منها للرواية. أو هي تبدو بحثاً معمقاً على لسان راو من ذلك العصر. تاريخ الأندلس، أو قرطبة تحديداً، يمكن أن يوفر عناصر كثيرة لكتابة رواية تاريخية، لكن عبد الجبار عدوان لم يترك للخيال مجالاً، ولم يدعه يلعب دوراً في بناء أحداث الرواية وعوالمها... بل تسيطر على كتابه لغة علمية، ومنهجية أمينة للأحداث، لكن الشخصيات تبدو باهتة جداً، مثالية أو شريرة. وبعض الفصول كأنها حشو زائد للحديث عن تفصيل من حياة الأندلسيين.