بيار أبي صعب
المسرح العربي في حالة احتضار متقدمة.
إنه غارق تحت ركام من الخطابات البليدة، والدروس السياسية، والبكائيات الخانقة. محاصر بقدْر خرافي من الكلام الزائد، والصراخ الذي يعطل أي قدرة على الاستماع. فيه كل شيء سوى المسرح، أي التمثيل مثلاً، والإخراج طبعاً، والسينوغرافيا بشكل أساسي. أضف إلى تلك العناصر المعدومة: الحوار والدراماتورجيا والعناصر المشهدية والبصرية التي تشكل جوهر الفرجة.
ماذا بقي إذاً؟ الثرثرة والوعظ، الشكوى والصياح.
يقف رجال ونساء أمامنا، فوق خشبة مضاءة بشكل بشع غالباً. وسط ديكور يعطيك شعوراً بالاختناق، فلا يعود لديك سوى فكرة واحدة في رأسك: الخروج من هنا بأسرع وقت وفي أقصى سرعة. وهناك أنواع من الديكور: الواقعي والتجريدي والاختباري والمتقشف. ولعلّ الأخير أجمل تلك الأنواع لأنّه غير مرئي. رجال ونساء أمامنا لا يعرفون كيف ولماذا يتحركون. يتكلمون، ويصرخون، لكن قلّما يتخاطبون: الحوار الحقيقي صعب، يفترض حداً أدنى من القدرة على تصوّر الآخر، وافتراض وجوده المختلف. لذا يبدو ما يقال مجموعة مونولوغات متوازية أو متقاطعة أو متتابعة ــ متشابهة في كل الأحوال، صادرة عن شخص واحد هو غالباً الكاتب والمخرج والممثل و... الملحّن وخياط الملابس. كل مونولوغ يقول كل الحكاية، ويقطع الطريق على المونولوغات الأخرى.
هكذا يدور المشهد في حلقة مفرغة، يراوح مكانه، لا يتقدّم سنتيمتراً واحداً. حكايات غير مهمة، لا تفضي إلى مكان... دروس أخلاقية، أو مواقف تراجيدية قوية. أو كولاج من نصوص وكتابات أدبية. وأحياناً تصدح موسيقى فظيعة لتعطي المشهد “قوته التأثيرية”، فنتأثر إنما ليس في الاتجاه المطلوب. وتكون الطامة الكبرى، حين “يبرزق” أحد هؤلاء “المساطيل” عينيه، ويصطنع الخوف أو الحزن أو الغضب أو غيرها من الحالات الإنسانية الداخلية المعقدة، التي تصبح هنا كاريكاتورية وسطحية و... فظيعة.
كل هذا معروف منذ دهر، وكان يمكن أن نكتبه قبل سنة، أو عقد، أو ربع قرن... أو قبل ذلك، حين كانوا يمثلون “روايات” عن صلاح الدين أو جميلة في ظلال الأرز. لكن المشكلة أن الأمور لم تتغير مع الزمن، بل راحت تزداد سوءاً في السنوات الأخيرة. ماذا بقي اليوم من فورة الستينيات في مصر؟ ونهضة السبعينيات في بيروت؟ ماذا سيحلّ بإنجازات المختبر التونسي كما عرفناه في العقدين الماضيين؟
المسرح العربي في حالة احتضار متقدمة. هل نواصل الرثاء؟ أم نراهن على أشكال انبعاث أخرى؟