عبد الغني طليس
يتميّز الفنان ملحم بركات بكاريزما تغفر ذنوبه كلها. كاريزما تجذبك إليه حتى عندما ينقّض متهجّماً على الآخرين كالنسور. يثير انتباهك عندما يعيد صياغة ألحانه الشعبية العادية، بل العادية جداً، فتستحيل «غير عادية» عندما يغنيها هو، أو يعلن أنه صاحبها. يلفت انتباهك عندما يغني، كما يأسرك عندما يتحدث في مقابلة تلفزيونية أو إذاعية.
حرارة الجملة التي يقولها، وموسيقى كلماته المؤثرة وتوتره المشدود، وذكاؤه الواضح في اختيار تعابيره... كلها تجعل حضوره التلفزيوني ونبرته الاذاعية عاملين اساسيين في تحريك رغبة المتابعة لديك لما يقول. في التلفزيون والاذاعة، يبدو المغني ملحم بركات مادة استقطاب حقيقية، بصرف النظر عن الفائدة التي قد يجنيها المشاهد او المستمع: هل هي فائدة فنية أم مادة للتسلية؟
يرفض بركات لقب المغني أصلاً، لاعتقاده بأن «المغني» أقل مستوى وقوة من «المطرب»، علماً أن اللقب الأول هو الأصح في اللغة والمنطق. أما صفة «المطرب» فاختُرعت في منتصف القرن الماضي للتمييز بين أهل الغناء من دون أي التزام لقواعد اللغة والمعاني.
الغناء، أكاديمياً، هو إصدار صوت مع النغم، ومن يقم بهذا الفعل فهو مغن. أما الطرب، علمياً، فهو مزيج من حالتي الحزن والفرح وهذا ما لا يمكن ان يقوم به أي انسان. لكن ملحم، كغيره من الفنانين، لا يعيرون انتباهاً لشؤون اللغة وأصولها بقدر اهتمامهم بما يعزز ايمانهم في أنفسهم.
بعيداً من كل هذا الجدل، يمكن اعتبار ملحم بركات مغنياً قديراً، يمتلك إمكانات صوتية كبيرة، واحترافاً لافتاً في الأداء. قدراته الصوتية لم تتراجع مع تقدمه في السن (بلغ الستين قبل مدة). فمع التقدم في العمر، تخفت عادة طاقة الأوتار الصوتية، ويقع بعض المغنين ضحية مبالغات أدائية قد تكشف الكثير من العيوب. أما ملحم فهو من الذين اكتسبوا خبرة كبيرة في تأدية الجمل الغنائية الصعبة، والانتقال بين القرار والجواب بطريقة تمنع وقوعهم في «النشاز». هو يفعل ذلك بلياقة سحرية ممزوجة بشخصية أدائية خاصة توحي الثقة والطمأنينة، حتى في بعض الحالات الصحية الحرجة: قدّم في احدى حفلاته اغنية تتطلب طبقة صوتية عالية، بعد أيام قليلة من خضوعه لجراحة في القلب...
صوت ملحم، اذاً، خارج المنافسة. وفي أسلوبه التلحيني، انفتاح على المقامات الشرقية الاصيلة، والكلاسيكيات العربية، المناخات الغربية. تخدم شحناته الابداعية الفنانين والحركة الغنائية اللبنانية والعربية. لكن بركات مقلّ في ألحانه، ومن ينل منه لحناً يعتبر الامر وساماً على صدره. وآخر «الاوسمة» كان لماجدة الرومي في «اعتزلت الغرام» ثم لنجوى كرم في مشاركتها معه أداء اغنية «وبيبقى الوطن»... على ملحم زيادة انتاجه، فهو آخر المخضرمين الكبار.