أمل الأندري
ياسمينة خضرة يضرب من جديد. في «صفارات بغداد» الصادرة أخيراً في باريس (Julliard)، يعود الكاتب الجزائري المثير للجدل الى مسائل العنف والتطرّف، واضعاً الحلقة الأخيرة من ثلاثيته عن العالم العربي والإرهاب

هذه المرة وصلت ياسمينة خضرة إلى بيروت، بل لنقل «وصل». فالاسم المستعار يخفي وراءه كاتباً جزائرياً مثيراً للجدل، حققت كتبه رواجاً في فرنسا... وما زالت موضع النقد، أو ممنوعة، أو مجهولة في معظم العواصم العربية.
في روايته الجديدة (الثالثة ضمن سلسلة الارهاب)، الصادرة أخيراً في باريس بعنوان “صفارات بغداد” (دار جوليار ــ 2006)، يختار ياسمينة (سنستعمل صيغة المذكّر لاسم أنثوي) الشرق الأوسط ديكوراً، وجحيمه وقوداً للأحداث. تبدأ الرواية من بيروت قبل أن تمضي بنا الى شعاب العراق... وتدور ــ هذه المرّة أيضاً ــ حول شخصية “انتحاري” في رحلة انزلاقه التدريجي الى الجحيم.
تنقّل الكاتب حتّى الآن بين الجزائر وكابول (“سنونوات كابول” ــ 2002) ففلسطين (“الاعتداء” ــ 2005)، وها “هو” يقتحم بيروت والعراق في “صفارات بغداد” لتكتمل ثلاثيته عن التطرّف وجذور الارهاب. لكن هل يمضي بنا حقّاً الى أعماق تلك الظاهرة، محاولاً فهمها وتفكيكها؟ أم الارهاب مجرّد عنصر تشويق من النوع الذي يقع في حبائله القارئ الفرنسي، والغربي عموماً؟
لطالما زرع هذا الروائي الحيرة والجدل من حوله، ابتداءً من سيرته الشخصية وانتهاءً بمسيرته الروائية. محمد مولسهول نموذج موفق لما يمكن تسميته بـ“الفصام الناجح” الذي تمخضت عنه الجزائر. بعد 36 سنة قضاها ضابطاً في الجيش الجزائري، كان يكتب خلالها باسم مستعار ــ ليس في الحقيقة سوى اسم زوجته ــ تفرّغ نهائياً للكتابة. ولم يكشف عن هويّته الا بعد سنوات من النشر، مع صدور سيرته الذاتية “الكاتب” (2001) وانتقاله للعيش نهائياً في فرنسا.
النجاح الذي عرفه هذا الكاتب، مع ترجمة أعماله الى 17 لغة بينها الصينية، تواجهه عزلة تامة في لغة الضاد التي لم ينقل إليها حتّى الآن أي من رواياته. فعدا العلاقة الاشكالية التي تربطه بهذه اللغة ــ محاولة نسيان ماضيه العسكري ربّما؟ ــ جاءت روايته “الاعتداء” أشبه بقنبلة موقوتة انفجرت في يد أكثر من طرف وجهة، وما زالت آثارها تتفاعل الى اليوم. إذ أُوقف قبل أسابيع مثلاً مشروع ترجمتها العربية ضمن اطار نشاطات “الجزائر عاصمة ثقافية عربية للعام 2007”. وقبل ذلك تعرّض صاحب “بم تحلم الذئاب” (1999) الى حملات عنيفة من بعض الصحافة العربية، وصلت الى حدّ اتهامه بأنّه “يطمع في “غونكور” (الجائزة الأدبية المرموقة في فرنسا)، وبأنّه «للحصول عليها، لا يتوانى عن مغازلة الاسرائيليين”.
في الواقع، إذا ما عدنا الى رواية “الاعتداء”، نجد أننا ــ للمرة الأولى ــ أمام روائي عربي يقارب الصراع العربي الاسرائيلي بطريقة مختلفة (“متسامحة” مع العدوّ في بعض الأحيان حسب منتقديه!). الرواية لا تتطرق مباشرةً الى الطابع السياسي للصراع، بقدر ما يهمّها تفكيك تركيبة النفس البشرية، وكيف تؤدي حالة الاحباط واليأس والحرمان الى بلوغها شفير الهاوية والتطرّف وتحوّلها قنبلة بشرية.
تتركز رواية “الاعتداء” على شخصية أمين، الجرّاح الفلسطيني من عرب 1948 الذي يعيش في تل أبيب مع زوجته سهام حياةً هانئة. هذا على الأقل ما يخيّل إليه... الى ان يكشف النقاب ذات يوم عن منفّذة “عملية انتحارية”، فينزاح الغشاء عن عينيه ليواجه الحقيقة المرة: زوجته سهام مضرجة بدمائها. لم يكن أمين يريد اتخاذ موقف من الصراع، فإذا به يجد نفسه على حين غرة متورطاً فيه، يبحث بين الجليل وجنين عن الأسباب التي دفعت زوجته الى التخلّي عن حياتهما السعيدة وتفجير نفسها في مقهى مزدحم بالمدنيين الاسرائيليين.
إلا أن خضرة صرّح مراراً بأنّه لم يرد اتخاذ موقف في “الاعتداء”، بقدر ما أراد ان يعطي الكلمة من الداخل للشخصيات في هذه المأساة التي تمزقنا جميعاً، مع التركيز على الخسائر لا على الأخطاء. ولهذا السبب وصفته الصحف الفرنسية بالانساني الذي توغّل عميقاً في التركيبة النفسية لشخصياته، المجال الذي برع فيه، وخصوصاً في روايته “القريبة كا” (2003). هذا الروائي الجزائري الذي أعلن مراراً أنّه يفهم جيداً كيفية تفكير المتطرّفين بعدما عانى معهم في الجزائر، شغله عالم ما بعد 11 أيلول، وخصوصاً أنّه تعرّض بنفسه للإذلال في مطارات الدول الغربية بسبب سحنته، فحاول في ثلاثيته (“سنونوات كابول” و“الاعتداء” وأخيراً “صفارات بغداد”) أن يعطي الغرب صورة واضحة عما يجري في العالم العربي، وراح يرصد الاحباطات التي قد تدفع الأفراد والجماعات الى التطرّف. وقد أشار الضابط الجزائري السابق، أكثر من مرّة، إلى أن أدبه يشكل دعوة الى الغرب لفهم العالم العربي واحترامه ومساعدته في الخروج من دوامة العنف.
في “سنونوات كابول” يلقي خضرة الضوء على انزلاق الأفراد الى الجنون. يترصد المعاناة الانسانية في عصر طالبان، ويصف عالماً يتحلّل بسرعة وينهار، بعدما صارت مجرّد “ابتسامة” فيه “خطيئة”.
وها هو يعود الى تيمته المفضلة للمرة الأخيرة في “صفارات بغداد” حيث يبدأ المشهد الأول من بيروت، على خلفية اغتيال رفيق الحريري والاضطرابات الأمنية اللاحقة، ليصوّر رحلة انتحاري في عراق ما بعد الاحتلال الاميركي، ويصل بنا الى شفير الانكسار واليأس والجنون. هذا كلّه على خلفية الانقسام الحاصل بين العراقيين حول الاحتلال الأميركي وتحوّل العراق الى بؤرة للجماعات الأصولية والعمليات الارهابية.
يعتبر خضرة ان ثلاثيته ترمي الى إفهام الغرب ان الارهاب ليس طبيعة ثانية عند العرب، بل هو نابع من واقع سياسي مأزوم. في حوار أدلى به الى صحيفة “لو موند” الفرنسية (29 أيلول)، يوضح فكرته كالآتي: “أحاول في رواياتي الثلاث ان أمسك بيد العالم الغربي، كي أعود به الى جذور سوء التفاهم بيننا... وأجعل القارئ يقترب من ذلك الرجل الذي قرر يوماً ان يفجّر نفسه وسط الأبرياء. أحاول ان أثبت ان العالم العربي لا يمر بأزمة ايديولوجية بل سياسية، في ظل فساد الحكام الذين ينهبون الثروات الوطنية. هؤلاء الذين يفجرون أنفسهم، ليسوا في النهاية أكثر من أفراد شعروا في لحظة محددة من وجودهم ان احلامهم لم تعد تستهويهم، فطلّقوا العالم وأنفسهم وغرقوا في ظلام لا ينتهي”.
“صفارات بغداد” هي ختام ثلاثية الروائي الجزائري الذي صرّح بأنّه سيطلّق بدوره هموم عالمنا المعاصر، ليجاور الحلم والخيال من جديد... “أوليس الأدب علاج الحقائق الصعبة أيضاً؟”.