خليل صويلح
كتب جيوفاني بوكاشيو «الديكاميرون» في أوروبا القرون الوسطى الخارجة من الطاعون، الرازحة تحت نير الجهل والفقر، والكنيسة والإقطاع، هذا النص الصادم الذي أسس السرد الجديد، واستوحى منه بيار باولو بازوليني أحد أشهر أفلامه. بقي بعيداً عن المكتبة العربية، إلى أن تجرأ عليه صالح علماني (دار المدى) أخيراً!

بقيت تحفة الكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو “الديكاميرون” بمنأى عن القارئ العربي، طوال سبعة قرون، عدا ملخصات مهذّبة و“منقّحة” مأخوذة عن الرواية الأصلية. ولعل العرب رأوا في هذه الحكايات ما يخدش الحياء، أو يثير الفضيحة، إذ تنتمي إلى ما يسمّى “الأدب المكشوف”، ويتوغل بعضها في منطقة محرّمة تصعب مراودتها لاعتبارات أخلاقية في الدرجة الأولى. هكذا، اختار كامل كيلاني حكايات مهذّبة وقدمها “بتصرف” إلى المكتبة العربية بوصفها مغامرات مسلية، لا تخلو من أمثولة وموعظة. صدرت آنذاك في القاهرة تحت عنوان “مختار القصص” (1929) إضافة إلى ترجمات متفرقة لبعض القصص، عنيت بالإنشاء على حساب المتن الحكائي.
وها هي “حديقة الملذات الدنيوية” تصدر كاملة لأول مرة بالعربية بترجمة صالح علماني (دار المدى) في سلسلة “أعمال خالدة” جنباً إلى جنب مع “دون كيخوته” و“فاوست” و“موبي ديك”. كتب جيوفاني بوكاشيو “الديكاميرون” (ومعناها “الأيام العشرة”) في لحظة مفصلية عاشتها أوروبا القرن الرابع عشر. فقد كانت هذه القارة تتململ تحت وطأة قيم إقطاعية ودينية راسخة، وتتطلع بشغف إلى عصر النهضة، بعد انتشار صناعة الصوف والحرير وتأسيس المصارف، وهو ما أفرز طبقة بورجوازية ذات نزعة طبيعية ودنيوية تعارض المثالية. وجد بوكاشيو (1313 ــ 1375) صاحب الروح المتمردة على عصره، أن وباء الطاعون الذي اجتاح أوروبا وعصف بربع سكان القارة، يحتاج إلى نص مختلف يقلل من سطوة الكنيسة ويذهب باتجاه الحياة المسلية والمرحة... فكانت “الديكاميرون”!
على خطى “ألف ليلة وليلة” ينسج بوكاشيو طريقة للحكي المتوالد. وسوف تكون هذه الرواية مفتاحاً للسرد القصصي الجديد في أوروبا، ومنهجاً لرواية عصر النهضة. وإذا كانت شهرزاد قد تكفلت وحدها برواية الليالي العربية، فإن “الديكاميرون” تفسح المجال لعشرة رواة، كي يتناوبوا على مقعد الراوي. تجتمع سبع نساء في بهو كنيسة سانتا ماريا في فلورنسا للتضرع من أجل البقاء على قيد الحياة، بعدما أطاح الطاعون معظم سكان المدينة، فيما “الحياة تنفلت هاربة ولا تنتظر ساعة واحدة”. تقترح إحداهن الذهاب إلى قصر خارج المدينة ريثما تنجلي المحنة. تتردد الأخريات، ويصل ثلاثة شبان أرادوا الترويح عن أنفسهم. يستمعون إلى الاقتراح فتعجبهم الفكرة وينفذونها على الفور. في القصر، يقررون قتل الوقت بالحكاية ويتفقون على انتخاب ملكة كل يوم، هي من يقرر نوع الحكاية ومسارها. ثم يأتي دور الشبان الثلاثة. وبحسبة بسيطة، سوف نقع على مئة حكاية بعشرة رواة وعشرة أيام هي المدة التي قضتها المجموعة خارج المدينة.
في تقديمه للكتاب، يشير بوكاشيو إلى أن هذه القصص موجهة للنساء الحزينات، كنوع من المؤاساة والسلوى بعيداً من “أشغال الإبرة والمغزل والحياكة”. وتتبدى في القصص حالات حب سعيدة وأخرى قاسية، وأحداث مفاجئة وغير متوقعة كترجيع لآلام شخصية عاشها الكاتب إثر قصة حب عاصفة انتهت بكارثة.
لا يتورع بوكاشيو عن الخوض في المناطق السرية للحب، وفتح الصندوق الأسود لعلاقات الغرام الملتهبة، لكنه في النهاية يسعى إلى استخلاص أمثولات ونصائح. فالحياة العبثية والمتهتكة التي عاشها الكاتب وتجواله بين المدن الإيطالية، ومعاشرة الطبقة البورجوازية عن كثب، أجّجت ذاكرته بعدد لا يحصى من حكايات الحب والخيانة. وحين انكب على كتابة “الأيام العشرة”، استعاد مخزونه الحكائي مما استهواه من أعمال القرون الوسطى والآداب الشرقية، وما عاشه من تجارب شخصية ومكابدات عاطفية، أدت به إلى الفشل في دراسة القانون وعلوم المصارف. وإذا بالنتيجة نص مختلف، ينهض على مقومات حكائية جديدة، لم يسبقه إليها أحد من كتاب عصره، تتمثل في مقاربة “بهجة العصور الوسطى” وبزوغ حياة جديدة تدير ظهرها للقيم القديمة وتمتدح الحياة الواقعية والملذات الدنيوية على عكس ما كانت تدعو إليه “الكوميديا الإلهية” لدانتي، أو قصائد بترارك التأملية.
ينطلق بوكاشيو في “الديكاميرون” من لحظة مأساوية، مبحراً نحو حياة أقل بؤساً. تلعب متعة الحكاية دوراً مركزياً في تأجيل الموت. تروي شهرزاد حكاياتها تحت وطأة سيف شهريار، فيما يرزح رواة بوكاشيو تحت ثقل الطاعون. يتطلعون إلى أزمنة أخرى تفتح الأبواب على مصراعيها أمام كرنفال مترف بالحب والغواية والمجون والخديعة والوله والحرية. حتى إن بعض الحكايات تتقاطع مع مناخات “ألف ليلة وليلة”، إذ ليس للحكاية وطن و“لا وجود لمعلم واحد، ينجز كل الأشياء بصورة جيدة وكاملة”.
لكن بوكاشيو الذي قرأ ملاحم الإغريق وأعمال هوميروس، يضفي على هذه الحكايات رؤيته الشخصية. لأول مرة في تاريخ الأدب الإيطالي القديم، يتدخل المؤلف لترميم ثغرات الراوي، ويخترع قصصاً واقعية موازية للحكايات الأصلية بين الرواة أنفسهم وخارج وقت الحكاية. وأحياناً لا يتوانى عن التعليق المباشر على أسباب خوض الرواة مغامرات إيروتيكية حرجة ومتشعبةز كأنّه يعتذر الى القارئ! وربما يتهكم من بعض أبطال حكاياته: “من استطاع الحصول على بغيته بالجرأة والحيلة”، “أولئك الذين انتهت غرامياتهم نهاية مأساوية”، و“كيف ينجو بعض الأشخاص بفضل جواب ذكي يعتمد سرعة البديهة”، و“حيل النساء ومكائدهن لخداع ازواجهن”.
نقل بوكاشيو الرواية إلى منطقة حسية، تتناوب في سرديتها الرغبة والشهوة من جهة، والتمرد على قوانين محاكم التفتيش من جهة أخرى. هكذا تولد “ألف ليلة وليلة” الإيطالية في لغة جديدة وحكايات مبهرة، تحدث في الطريق أو وراء الأبواب المغلقة في لوحة بانورامية ترسم بعمق ومتعة عتبات عصر النهضة بكل ما فيه من تحولات ورغبات ومصائر مؤجلة.