أنسي الحاج
شاغلُ الإغراء أن يبدو كالقَدَر، ولعبةُ القَدَر أن يبدو كالصُدْفَة.


هل تصدّق أن الوحيد مصنوع من الكبرياء والصبر؟ هناك وحيدون منسحقون وعصبيّون، وما سكوتهم إلاّ لأنهم لا يجدون مَن يُصغي إليهم.
نضع الكبرياء سبباً لبعض تعاساتنا علّها ترفع من شأنها. وأما الصبر فما أدراك ما صحراؤه!
الوحيد في نفسه، المنهوش بوحدته كغصن تفترسه حشراته، هو كائنُ لهفةٍ مصدومة وتعطّشٍ بلا مقابل، قد تَسْمَع له ضجيجاً وتراه برّاقاً ككرنفال، وقد تحسبه خير مُعين لك على وحشتك، وهو في حقيقته بيت مهجور.

الفلاسفة السابقون لسقراط، ومثلهم حكماء الشرق الأقصى والحكماء عموماً، يريدون للإنسان حياة هادئة أو هانئة، فيبشّرونه تارةً بالاعتدال وطوراً بالزهد. الأمر الذي يجعلهم يتمتّعون بسمعتين متناقضتين: العطف على الجنس البشري، وتكوين أحد أكبر مصادر الملل الفكري.
لا سيما حكماء الشرق الأقصى (الإغريق ظلّوا متمسّكين بهاجس التوفيق بين فرح الحياة وتجنُّب مخاطراتها).
الشعراء والفنّانون يمزّقون مصائرهم تمزيقاً.
وبَدَل الاعتدال يدعوننا إلى الإفراط، وأما الحياة فغالباً ما يختلط مدلولها عندهم (سواء في مسلكهم اليومي أو في أعمالهم) بالرهان الأقصى عليها في كل ثانية.
منذ بدء الخليقة والغيور على مصيرك مزعج ومضجر، والمفتن الهدّام الشرّير محبوب ومعبود.


«في الشعر، لا يُسكَن إلا المكان المغادَر، لا يُخلق إلا ما يُنفصل عنه، لا تُنال الديمومة إلّا بتحطيم الزمن. ولكن كل ما يُنال بالانفصال والانفكاك والنفي، لا يُنال إلا من أجل الآخر. وسرعان ما يعود السجن وينغلق على الهارب. معطي الحرية ليس حرّاً إلا في الآخرين. لا ينعم الشاعر إلاّ بحرية الآخرين».
(رونيه شار، «البحث عن القاعدة وعن القمّة»).


ماذا يفعل اللادينيّون العرب في خضمّ المناخات الدينية المتعاظمة حولهم؟
على افتراض وجودهم، أو على افتراض وجودهم بكثرة، لا نستطيع إلاّ الإعجاب بهم والرثاء لهم. فهم أحرار ولكن في الغرق لا في النجاة، والنجاة هنا أسوأ من الغرق. الخوف هو أن يصيروا الباطنيين الجدد. كان التوقّع أن يأفل عصر الأديان مع اختتام القرن العشرين وأن يكون الحادي والعشرون عصر الثورية التقدمية والتحرر من جميع الايديولوجيات. ها هو العشرون يستمر في لاحقه. ويتصاعد وبانتشار عالمي تحت عنوان «صراع الحضارات» وبزعامة أميركية يدعو غباؤها أو تغابيها إلى اليأس.
تبقى المفاجآت. كأن يسفر هذا الارتفاع الذروي في الحمّى الدينية عن هبوط الحمّى نحو البرود، ويعود الحادي والعشرون ويفي بالتكهّنات.


ماذا تستطيع الشعوب المقهورة؟
أن «تُفْسد» الأمم القاهرة. أن تنخرها وتجتاحها بالفكرة.
أو أن تستسلم. أن تَقْنَع بـ«الانضمام» والانحلال.
كيف تقاوم إذا أرادت أن تقاوم؟ بتغذية الرابطة العرقية فيها، إذا توافرت. وإلا فبفسح المجال الاجتماعي لظهور المفكّرين والروّاد وقادحي الشرارات، وانطلاقة إشعاعهم متجاوزاً حدود البلاد وحدود اللغة. ذلك أمل في قوّة للشعوب الصغيرة والمقهورة والمعزولة. وأمل للأقلّيات. بدون تحقيقه تنقرض قبل أن يلوح أي شبح للعولمة.


العرب تعترضهم جميع الحواجز في هذا المضمار. اللغة، أولاً. رغم جمالها وغناها لم تستطع العربية التحوّل إلى لغة عالميّة. ما يكتبه العربي بالكاد يقرأه عربي. فضلاً عن أنه مُنْتَج ثلاثة رقباء سلفاً وعلى الأقل: الرقيب الذاتي والرقيب الرسمي والرقيب الديني. أصبح الخيار أمام الكاتب العربي في هذه الحال محصوراً في ثلاثة: التهرّب من الموضوع، الكتابة الباطنية، الكتابة الانتحارية. الكتابة الحرّة المعافاة والمعفاة ما زالت حلماً. وإذا وردت فنشرها متعذّر. مع ذلك لا بدّ من التنويه بالمؤلفين الذين يتحدّون المقدّس ويغامرون بحياتهم، ولم يعد سلمان رشدي وحيد عصره، ولا تسليمة نسرين، ولا حامد أبو زيد، وتسهم مواقع الإنترنت إسهاماً كبيراً في تشجيع الجهر. ومبلغ الجرأة والحرية فيها يضع أمام الصحافة المكتوبة تحدياً أكبر بكثير من تحدي التلفزيون لها: إنه تحدّي قول الممنوع. والمثابرة. ودفع الثمن. والمثابرة. والصحيفة الرائدة في هذا ستصنع ولادة جديدة للصحافة العربية والفكر العربي والإنسان العربي.


اللغة، أولاً. تليها حواجز لا تقلّ خطورة في طليعتها الاختلاف الديني والثقافي والمواقف الأساسية من الحياة والعالم. ويمكن اختصار الحلول لجميع هذه المشكلات بواحد هو الحرية. فعندما يعبّر الكاتب العربي بكلمة حرّة عن وجدان حرّ يصبح لديه ما يَهمّ القارئ غير العربي معرفته. ويصبح له أمل باختراق الحواجز نحو القارئ العالمي، ويجلس أحد شعوب ما يسمّونه «اللغات الميتة» في بهو المشاركة، يُصغى إليه أخيراً بعدما اعتاد منذ عصور أن يكتفي بالجلوس في صفوف المستمعين.
وعوض أن يلجأ العربي الى اليأس أو الإرهاب يفرض حينئذ وجوده بالخَلْق. ومثلما «أفسده» الغرب بثقافته طوال قرون يحين دوره هو في «الإفساد».
ويكون له، ربما، «استعماره» الفكري على متن الحرّية هذه المرة، حرية طال الشوق إليها حتّى بدت مستحيلة، وباتت هي الأندلس، وأعزّ وأكرم.