strong>رلى راشد
رواية بول أوستر “أسفار في الصومعة” تقدّم بأسلوب ميتا ــ خيالي صورة أمينة لأميركا المعاصرة. وقد تسلّم أمس في اسبانيا جائزة “أمير أستورياس” للأدب، ليكون ثالث كاتب أميركي يحظى بهذا التكريم بعد آرثر ميلر وسوزان سونتاغ

كان بول أوستر في الثامنة عندما أضاع فرصة حياته. الطفل المولع بكرة المضرب، لم يتمكن من الحصول على توقيع نجم البايسبول الشهير الذي التقاه مصادفةً... لأنه ببساطة لم يجد في حوزته قلماً. منذ ذلك اليوم قطع الولد على نفسه عهداً، بألا يفارقه القلم أبداً. حتى إنّه ابتكر نظريّة مفادها: “احتفظ دوماً بقلمك، فستستخدمه عاجلاً أم آجلاً”. هذا ما فعله أوستر لاحقاً، في الشعر والترجمة والنقد وكتابة السيناريو، حتى صار بعدها بسنوات، أحد أبرز كتّاب أميركا. هكذا انتقل من فلك المُذكّرات العائلية في “اختراع الوحدة” (1982)، الى الخيال الصرف “في بلاد الأشياء الأخيرة” (1987)، وصولاً الى استقصاءات الهويّة في “ثلاثية نيويورك”: “مدينة الزجاج” (1985)، و“الأشباح” و“الغرفة المغلقة” (1986).
وقبل مجيئه أمس الى اسبانيا لتسلّم جائزة “أمير أستورياس” للآداب، أطلق بول أوستر في نيويورك رواية جديدة بعنوان “أسفار في الصومعة”، مستأنفاً نسج تلك القماشة العنكبوتية التي يتورط فيها القارئ بين مجموعة تفاصيل سردية ينبغي له أن يخرج منها وقد فكّ رموزها، واهتدى الى العلاقات الخفية التي تجمع بينها.
وقد لا نخطىء إذا قارنّا “أسفار في الصومعة” (Travels in the Scriptorium)، بأدب الرواية السوداء التي تقوم على لُعبة تُورّط القارىء والكاتب على السواء وتضعهما على قدم المساواة. في فضاء لا يتعدّى مساحة غرفة، يجلس بلانك العجوز الذي لم يعد يعرف من هو أو كيف انتهى به المطاف الى هذا المكان. هل هو مُحتجز أو موجود في الغرفة بملء إرادته؟ تخونُه الذاكرة، فيحاول التنقيب في ذهنه المُشوّش عن مفاتيح تسمح له بالولوج الى ماضيه. يراقب ما يحيط به، فيقع على مخطوطة تسرد حكاية أسير آخر، وتدور في عالم موازٍ يجهلُه. كأن المخطوطة تُركت عمداً في هذا الركن مع رزمة صور بالأبيض والأسود ومجموعة أوراق.
كأننا بصاحب “كتاب الأوهام” و“اختراع الوحدة” يحاكي في روايته الأخيرة أدب الأساطير، جاعلاً منها “صدى لما يجري في أميركا راهناً”. يمرّ الخيط الخفي الذي يجمع بين هذا العمل المُتخيّل والواقع من خلال صوت تشغيل كاميرا مراقبة. يأتي الصوت ليذكّرنا بوجود عين ترصد تحرّكات بلانك ثانية بثانية، وتُطلعنا أنه لا اختلاف بين قدر هذا الرجل وقدر أي مواطن آخر في المُجتمعات الحديثة. هكذا نعود الى حالة ترقّب ضاغط كالذي يخيّم على رواية جوزيه ساراماغو “انقطاعات الموت”، حيث يقرّر الموت إيقاف نشاطه لساعات. في وقت من الأوقات، تقتحم رواية أوستر امرأة في منتصف العمر تدعى آنا، تتحدّث عن حبوب وعلاجات وحبّ ووعود أيضاً. وتتناوب آنا مع دخلاء آخرين على الغرفة جاؤوا لمواجهة الكاتب بلانك. هو بالكاد يَذكُرهم، لكنّهم يكرهونه لأنه ارتكب جرائم في حقهم. تسجّل الرواية الجديدة عودة الى نزعة ميتافيزيقيّة طبعت تجارب أوستر الأولى، وتتجلّى بوضوح في قصائده. لكن العمل يقوم كالعادة على إحالات لا تنتهي. هذه المرة يوجّه الكاتب نوعاً من التحيّة الى شخصيات رواياته الأخرى، يتسرّبون منها الى فضاء الرواية الجديدة. زوّار بلانك العجوز ليسوا سوى شخصيّات أوستر القديمة، كما خلقها وأطلقها في وجداننا، بأسئلتها الوجوديّة ورحلتها المضنية لإدراك الذات. هذا المنحى الميتا ــ خيالي يطبع روايات معاصرة عدّة، مثل “الرجل البطيء” لكويتزي. إذ تعود الى الرواية المذكورة إليزابيث كوستيلو، وهي شخصية ظهرت في رواية سابقة للكاتب الجنوب إفريقي الحائز نوبل للآداب. إنها بالطبع من طينة الشخصيّات المُعذّبة التي استوطنت النوع الأدبي في ستينيات القرن الماضي. إلاّ أنها هنا باتت قادرة على محاسبة مُبتكرها على ما آل إليه مصيرها، أو شكره على منحها هبة الحياة.
على هذا النحو، نسمع آنا الكئيبة الآتية من رواية “في بلاد الأشياء الأخيرة” تقول لخالقها بلانك: “أنت تقوم بما ينبغي لك القيام به، ثم تقع الأمور الجيّدة والأخرى السيّئة أيضاً”. تلومه لأنه جعلها تتضور جوعاً وقتل ولدها، لكنها تضيف “أنت لا تُشبه الرجال الباقين. لقد ضحّيت بحياتك لمصلحة شيء يتخطّاك. ومهما فعلت أو لم تفعل، لم يكن ذلك يوماً لدوافع أنانيّة”.
تستكشف “أسفار في الصومعة” بذكاء مواضيع أساسية: اللغة والمسؤولية ومرور الوقت. وهي بلا شكّ محطّة بارزة في مسيرة أوستر الذي يتماهى في بعض محطّات حياته مع مسار شخصيّاته. لقد بقي ابن نيوجيرسي المُقيم في بروكلين متوارياً سنوات عن مسقط رأسه، ولم يعد إلى نيوجيرسي إلاّ بعد تلقّيه دعوة من إحدى الجامعات. تماماً مثلما حملت توصية مُبهمة نايثان غلاس، بطل “حماقات بروكلين” على العودة الى مرتع طفولته في بروكلين، خلال بحثه عن مكان يموت فيه.
في موازاة المساحات الضبابيّة التي تكتنف أعماله الأولى، مال أوستر في السنوات الاخيرة الى تجنيب شخصيّاته الكأس المرة... بل منحها أحياناً ترف إنقاذ حياتها. صحيح أن حتميّة المصير الأسود تطالعنا منذ السطور الأولى لـ“كتاب الأوهام” (2002) و“حماقات بروكلين” (2005)، لكنّ الشخصيات الرئيسة تتجاوز في النهاية طقوس التحوّلات، لتَعرف شيئاً من السعادة... وتهتدي الى معنى لوجودها. وبهذا المعنى تذكّر “أسفار في الصومعة” في مكان ما، بـ“شريط كراب الأخير” لصاموئيل بيكيت. والمعروف أن أوستر تربطه بالكاتب الإيرلندي الكبير علاقة تجاذب وتنافر، بل لنقل علاقة تصادمية: إذ طالما اعتبر أن بيكيت من الأصوات الأدبية التي كافح للتحرّر منها. ألم يقل عن صاحب “نهاية اللعبة” يوماً: “عندما تقرأه للمرّة الأولى، تشعر أنه أعاد ابتكار الرواية، وجعل مستحيلاً على أي شخص تأليف رواية بعده”؟... من حسن حظنا أن أوستر الذي يعود هنا الى المعلّم البعيد، نجح منذ زمن في التخلص من لعنة بيكيت!