strong>خليل صويلح
كأن الأمر يجري في شيكاغو، لا في دمشق: عصابات ومخدرات ومطاردات ومرضى إيدز ومصحات عقلية، ومقاولون، وصفقات مشبوهة، وفضائح مالية، وفساد شخصيات في موقع المسؤولية. كل هذه الوجبة من العنف تحدث على شاشة واحدة، حتى أن أحد أبطال هذه المسلسلات لم يتورع عن طلب طائرة لمغادرة المكان، بعدما حاصرته قوات الأمن. أما الشرطي الذي يتثاءب طوال مناوبته الليلية في مشهد واقعي بامتياز، فلم يحصل على حصته، ولو في لقطة عابرة، من هذه الوليمة الدسمة. فـ“أسياد المال”، و“الذئاب” يحاصرون حياتنا بمنطق هوليودي صرف مقتبس من أشرطة متوافرة في رفوف مكتبات الفيديو، وما على كاتب السيناريو الملهم سوى أن يقوم بالتوليف، ويخترع حياة على الورق، باستبدال أسماء الشخصيات والأماكن، ووضع اسمه كمؤلف مسبوقاً بعبارة “الكاتب الكبير”!
“الفساد” هو العنوان المفضّل لكتّاب الدراما في سوريا، هذا الموسم على الأقل. ولا مانع من أن يتناول بعضهم، بخفة يحسد عليها، شخصية ما، ويضعها في مهب الفضيحة التلفزيونية: ملفات غامضة، ومكالمات هاتفية مجهولة، وخدم وحشم... وزواج عرفي، مقتبس هذه المرة من المسلسلات المصرية.
لكن لحظة المحاسبة ستأتي بالتأكيد، لا لأسباب درامية موجبة، كما يعتقد بعضهم، بل لضرورات تقنية وحسب. فالمؤشر يقترب من الحلقة الثلاثين، ولا بد من أن تسكت شهرزاد عن الكلام المباح، ويغادر “شهريار” الشاشة، لينال جزاءه العادل، فالعيون الساهرة بالمرصاد، وها هي تعيد الحق الضائع إلى أصحابه بمشهد واحد: فقد المسؤول الغامض جبروته، وربما يظهر نزاهته، فهو في غمرة انشغالاته بقضايا الوطن وهموم المواطن، اكتشف متأخراً فساد حاشيته وقيامها باستغلال منصبه، لتحقيق منافع شخصية.
الوصفة الجاهزة في هذا النمط من الدراما “الشجاعة”، هي أن تضع الشخصية الفاسدة في إطار غامض، وتدع المشاهد يتكهن اسم صاحبها أو موقعه: هل هو “الأمبراطور” الذي حصد الأخضر واليابس، في حقبة ما، أم ذلك الرجل الهامشي المجهول الذي صعد فجأة إلى الصفوف الأولى، مسبوقاً بالفزع والخوف؟
يتساءل الأول، وهو يلقي حجر النرد: لكن الأمبراطور لم يتزوج عرفياً؟ فيجيب الآخر: “صحيح، ما حاجته إلى الزواج العرفي، وهو الذي كان يبارك استيراد الراقصات الروسيات إلى ملاهي دمشق؟”... قبل أن يضيف بثقة: “يا سيدي إنه بلا أدنى شك...”، يهمس في أذن محاوره باسم أحدهم، وهو يتلفت حوله بارتياب. فيهز صاحبه رأسه، ثم يعاجله بـ“دو شيش”. هكذا رصدت الدراما، قبل سنوات، أحوال رجال أمن ومديرين عامين، في “مرايا” و“بقعة ضوء”. وفي هذا الموسم، صعد أيمن زيدان من مرتبة مدير عام إلى وزير ينتمي إلى أحد الأحزاب الصديقة في “الوزير وسعادة حرمه”، لينتهي الأمر لاحقاً بـ“كبسة زر” إلى منطقة درامية أخرى، واختراع حياة اجتماعية، يكاد لا يعرفها أحد. فالواقعية “التلفزيونية”، كما يفهمها هؤلاء الكتاب، تفترض هدر أكبر كمية من الحبر في غرف مغلقة، وإنعاش شخصيات مخترعة بهواء اصطناعي، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة في مواجهة العدسة وعين المتلقّي.
تقديم وجبة الفساد في طبق مغطّس بالشوكولا، هو ما تفعله الدراما السورية اليوم، بتواطؤ مكشوف بين صنّاع هذه الدراما ومزاج الرقيب. أما المشاهد، فهو الضحية النموذجية الوحيدة، وما عليه في هذه الحال، سوى الصبر والسلوان، أو أن يذهب إلى أحد المصحّات العقلية!