strong>فرح داغر
لعلّها أخت إلكترا أو أنتيغونا... مليكة أوفقير ابنة الجنرال الذي انقلب على العاهل المغربي الأسبق، دفعت غالياً
ثمن أخطاء والدها. «الغريبة» (دار التنوير) قصّة امرأة تتعلّم الحياة في الأربعين


في عام ألفين اكتشف العالم مليكة أوفقير، ابنة الجنرال الشهير الذي كان أقرب المقربين الى العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، قبل أن يحاول الانقلاب عليه... يومها صدر كتابها الأول “السجينة”، وفيه تروي كيف دفعت غالياً ثمن أخطاء والدها، هي وسائر أفراد أسرتها. وفي الكتاب الذي أصدرته “دار الجديد” في بيروت مترجماً عن الفرنسية (2003)، تناولت أوفقير حياتها في السجن وفرارها منه. وها هي الكاتبة المغربية تواصل، عبر الكتابة، رحلة التطهّر من ذلك الماضي الصعب، ومن الراهن الأصعب ربّما. “الغريبة” هو عنوان كتابها الثاني الذي وجد طريقه بسرعة الى اللغة العربية، إذ صدر أخيراً في بيروت عن دار “التنوير” (ترجمة حسين عمر).
“الغريبة” كتاب عن الرغبة في استعادة الحياة، بكل ما تحمله من هجنة وشغف بعد انقطاع دام أكثر من عشرين سنة. لكن كتاب مليكة الثاني ليس إلا تتمة للكتاب الأول، لأنها أرادت ان تعالج نفسها من “الشقاء (غير العادي) وتصبح طبيعية” من خلال كتابة مذكراتها. بدت أوفقير في كتابيها كأنها بطلة تراجيديا إغريقية قديمة. نلحظ ذلك من بداية حياتها، مروراً بتربيتها ووصولاً الى دخولها السجن وعودتها الى رحاب الحرية. أخذها الملك محمد الخامس من والديها عندما كانت في الخامسة من عمرها. وبعد موت الملك عام 1961، تكفّل بها الملك الشاب الحسن الثاني. عاشت مليكة 11 سنة بعيدة من أسرتها، بين الفيلا ــ حيث كانت المربية الألزاسية تعتني بها بقبضة حديدية ــ والقصر حيث كان يرعاها العاهل الجديد بعطف وصرامة أبويين.
بعد محاولة الانقلاب التي حصلت في المغرب عام 1972، واجهت مليكة مأزقاً مؤلماً: والدها البيولوجي الجنرال أوفقير، وزير الداخلية آنذاك، ومن مخططي الانقلاب، حاول قتل والدها بالتبنّي (ملك المغرب). هكذا، بدأت رحلتها مع الشقاء. إذ أمر الملك الحسن الثاني بقتل والدها، فيما أرسل مليكة وأسرتها الى سجن في قلب الصحراء. علاقة إشكالية ربطت مليكة بهذين الرجلين اللذين غيّرا مجرى حياتها برمّته. ومع أنّهما كانا مصدر تعاستها، ظلّت تحبهما بشغف وعجزت عن كره أي منهما.
تروي مليكة كيف تخلّصت عائلتها من السجن في قصة فرار “أسطورية”. وما لبثت أن قضت خمس سنوات من الاقامة الجبرية في مراكش. وفي عام 1991، عجّلت كتابات جيل بيرو التي وجّهت نقداً مباشراً الى النظام المغربي آنذاك (كتاب “صديقنا الملك”) في إطلاقهم. لكنّهم انتظروا في المغرب خمس سنوات إضافية، قبل الحصول على جوازات سفر والمغادرة الى فرنسا.
روت مليكة ظروف العائلة أثناء الاعتقال: “كان الكل يعتقد بأنّنا كنّا مدلّلين، في مقر إقامة مراقب على الأكثر، ولكنني أتخيل وجوه أصدقائنا ــ كل أولاء المتملقين الذين كانوا يجتمعون الى مائدة والدي ــ حين يعلمون بأن البراغيث كانت تنهش سيقاننا حتى الدم، وأن الفئران كانت تنهب القليل من الطعام الذي كان يتوافر لنا، وأن الجرذان كانت تسير على أطرافنا، من دون أن ننسى العقارب والجراد بضجيجه الجهنمي”.
عندما خرجت أوفقير من السجن، اكتشفت أنها دخلت سجناً أكبر. تسأل هذه “الغريبة”: “أهذه هي الحرية؟ كلا: أواصل العيش في السجن، لكنه ببساطة سجن أوسع، وعليّ أن أتدبر أمري بمفردي. لم أعد أعرف أن أفعل أي شي. لا بد من أن أتعلم كل شيء من جديد”. لم تكن مواجهة الحرية بعد هذا الانقطاع بالأمر السهل. الأمور لم تعد كما كانت... كل شيء تغيّر: الأصدقاء واللغة وسائق التاكسي والسوبر ماركت والمال حتى طريقة الحصول على الماء. إنها حياة جديدة، ولا يمكن مليكة ان تتجاوز بسرعة قياسية عشرين سنة من الغياب، كما لا يمكنها ان ترجع الى الوراء، لتعيش كما كان يمكن أن تفعل قبل عقدين.
عذراء في الأربعين
في الأربعين من عمرها، وجب على مليكة أن تتعلم الحياة من جديد. فالتحول لم يطاول الأشياء فحسب، بل نفسيتها وكيانها أيضاً: لقد قضم السجن جسدها من الباطن. “في السجن، كنت عازمة بشدة، في حال استعادة حريتي، على ان أرمي بنفسي في سرير أول قادم لأنال مُرادي. لكن الواقع كان أكثر تعقيداً (...) كم من الليالي المنعزلة، في تلك الزنزانة المعتمة، مستلقية (...) حلمت بأنني سأمارس الحب؟ في الصباح، كنت أستيقظ يعتصرني الحزن والمرارة. سرعان ما تعلمت ألا أفكر في ذلك، على الأقل، ألا أُكثر من التفكير بذلك خشية ان أفسد أكثر”.
بعد هروبها من السجن، ستكتشف “السجينة” تعقيدات العلاقة بالآخر، وتحديداً الرجل. تقول عن علاقتها بالرجل الاول: “حينما اكتشفت جسده، انتابني الشعور بأنني أتصفح قاموساً. أتعلم هذه اللغة الجديدة كلمة بكلمة”. كل ذلك ترافق مع الشعور بالخوف والرعشة والارتجاف وعدم الأمان. أما عن علاقتها بزوجها الراهن، فتبين كيف اكتشف مكنونها واستطاع التوغّل في قلقها ومقاربة خوفها “من خلال اللمسة واليد وطريقتي في الحديث إليه، والجلوس الى جانبه، أدركَ في الحال انني كنت طفلة متنكرة في هيئة امرأة، متمردة تخفي ألمها”.
أوفقير التي كانت تراودها الكتابة في السجن من دون ان تمتلك القلم والورقة، جاء كتاب “السجينة” ليساهم في تحررها من شقاء السجن. منذ صدوره عام 2000، حقّق نجاحاً سريعاً ومفاجئاً. تهافتت عليها دور النشر ومحطات التلفزة والإذاعة والصحف، وأصبحت مليكة مادة دسمة، ودجاجة تبيض ذهباً. وبلغ الكتاب ذروة حضوره بعدما تبنّاه “نادي الكتاب” في برنامج الاميركية أوبرا وينفري. فإذا به بمثابة ولادة جديدة لمليكة أوفقير، مثل زوجها الذي سيكون الخطوة الناضجة في الحب، وخصوصاً بعد تبنّي ابنهما آدم.
ليس كتاب “الغريبة” إلا قصة هذه الولادة، بعد مشقات السجن وصدمة الحرية. هكذا كانت مليكة بطلة تراجيدية من أسرة تراجيدية، في بلد كان مسرحاً للمؤامرات والدم والعنف والأحداث المريرة.