حسين بن حمزة

تؤرخ مجموعة “مقاطع مطوقة” (“المؤسسة العربية للدراسات والنشر”) لعودة الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير إلى العراق بعد ثلاثين عاماً من النفي والغياب القسري. لذا فإن نصوص الكتاب تروي سيرة شعرية عراقية يختلط فيها الماضي الأسطوري بالراهن الدموي. يحضر بينهما رثاء لمدن وأماكن ورموز، واستعادة لذكريات قديمة وتفاصيل طفولة وحياة سابقة يعود الشاعر إلى معاينتها وتذوّق نكهتها مجدداً وقد كبرت، في غيابه، مثلما كبر هو أيضاً: (لا لستُ طائر الطوفان / وإلا لما رجعتُ من حيث انطلقتُ / وقد أدركتُ اليابسة). هكذا، يشبّه نفسه بالحمامة التي أطلقها النبي نوح في الطوفان العظيم ليتأكد من وجود يابسة. لكن العودة لا تشعره بطمأنينة البلاد: (لا أجرؤ على العودة / وأنا عائد).
الحرب ومجازرها اليومية هي أكثر ما يُشاهد في البلاد، والشاعر يستنجد باستعارة شعرية مواربة وموفقة ليصف الموتى: “لم يبقَ من المجزرة إلا الأحذية .. الموت على كل حال / يفضِّل الحفاة العراة”. فيتذكر القارئ هنا منظر الأحذية التي شاهدها مراراً على شاشات التلفزيون بعد كل خبر عاجل من العراق.
عودة الشاعر تفرض سطوتها على النصوص، فتكتظُّ بمسميات عراقية واضحة: ( الأهوار، دجلة، النخيل، أرضٌ بين نهرين، بغداد، الفرات، سومر، الإمام المنتظر، سوق الشيوخ، الطوز، عشائر المعدان، قبر علي...). لكن هذه المسميات ذات الحنين الطاغي لا تحضر وحدها، والحرب لا تسمح للشاعر بترف النوستالجيا. فهناك “إمبراطورية تدشّن / عصراً ذهبياً مشعاً في بغداد”، وهناك “مراسلون / لاستئصال اللحظات الدامية / ونقلها كالأعضاء الحية / من أجساد الـ “يموتون في المشارح / شظايا عراقية / العواصم بحاجة إلى دمها طريةً / تنقل كالأسماك التي تصل إلى الموائد / وهي تلبط”.
ورغم الواقع الدموي العراقي، يعثر القارئ على صور أخرى تنحو إلى شعرية خالصة. هكذا نقرأ: “يُنسب الذهول في عيون الأحياء / إلى ترقُّب سلالةٍ منقرضة من الطيور” وكذلك: “كان الليل / جثة فهدٍ أسود”.
هذا ليس تبريراً لعدم سعي الشاعر إلى كتابة صافية وتجريب شعري خالص، لكنها مناسبة لإبداء معاملة نقدية رحبة مع كتابات شعرية عراقية عدة، نُشرت في الفترة الأخيرة. ومعظم تلك الأعمال كُتب تحت وطأة عودة أصحابها، بعد غيابات قسرية ومناف طويلة، إلى بلد يعيش قيامة متواصلة منذ سنوات من دون حل واضح في الأفق.