strong>رلى راشد
لم يخرج ليونارد وولف من ظل زوجته فيرجينيا، مع أنّه عاش طويلاً بعد انتحارها، وحمل كل الذنوب بما في ذلك مسؤولية موتها. وعاش برانويل برونتي على هامش أخواته، مع أنه لم يكن يقلّ عنهن موهبة، فمضى ببطء الى الجحيم

كان بوسعهم أن يكونوا كتّاباً، أو أن يدخلوا التاريخ من بابه العريض، أن يقفوا في الضوء مع المشاهير... لكنّهم في النهاية ليسوا أكثر من أطياف قابعة في الهوامش. رجال يقفون في الظل خلف قامات نسائية فارعة. أزواج أو أشقاء كاتبات بارزات قد يشحذون نساءهم وأخواتهم بشيء من الوهج أو الوحي، بينما لا يُسمح لها بتجاوز سور الحديقة السرّية. في قافلة الأسماء المنسية، والوجوه الممحوّة هذه... رجلان: ليونارد وولف وبرانويل برونتي.
كثيرون أساؤوا حكمهم على زوج الروائية الإنكليزية فيرجينيا وولف... وآخرون ارتكبوا حماقة عندما همّشوا أخاً مجهولاً في قبيلة آل برونتي النسائية الأدبيّة. تعذّر على ليونارد الخروج من عباءة زوجته، وحُكم على برانويل أن يقيم في الظلّ بعد عجزه عن مجاراة نبوغ شقيقاته. الاثنان يلتقيان عند النظرة الدونيّة نفسها إلى الذات. في إهداء روايته “قرية في الأدغال” (1913)، كتب ليونارد للآنسة فيرجينيا ستيفن قبل أن تصبح السيدة وولف: “لقد مَنَحتُك كل القليل الذي يمكن لي منحه”، في حين توارى برانويل في لوحة عائليّة جمعت الشقيقات الثلاث، شارلوت وإميلي وآن، خلف ضبابية بالكاد تسمح بتمييز تخوم رأسه وكتفيه.
ليونارد وولف وبرانويل برونتي لاذا بالعتمة طويلاً... إلى أن جاء أخيراً من يخرجهما من هذا المنفى القسري. عاد كل منهما إلى الحياة ــ وإلى دائرة الضوء ــ عبر سيرة خاصة تأتي على شكل إعادة اعتبار متأخرة. في كتاب دافني دو مورييه “برانويل برونتي وعالمه الجهنمي”، نرصد تحوّل برانويل برونتي من طفل جَسور وصاحب حضور طاغٍ في دنيا شقيقاته... إلى شبح العائلة بعدما انطفأت شرارة عبقريته مع بلوغه الرشد. أما في “ليونارد وولف، قصّة حياة”، فنجحت فيكتوريا غلاندينينغ في تحييد صاحبة “السيدة دالواي”... للمرّة الأولى ليست فيرجينيا الشخصيّة المحوريّة كما كانت دوماً. توقّفت غلاندينينغ عند شخصية زوج حيكت ضده في أكثر من مجلّة أكاديمية، روايات تحمّله مسؤوليّة إهمال فيرجينيا، وصولاً إلى اتهامه بقتلها واستبعاد نظريّة انتحارها غرقاً.
كانت مأساة برونويل برونتي مختلفة. ففي موازاة تألّق الشقيقات، عرف برونويل رفضاً تلو الآخر، بدءاً بلوحاته وانتهاء بكتاباته، وهو ما أدى به الى الاستسلام لشعوره بالعجز عن مجاراة موهبة شقيقاته، مستسلماً الى لعبة تحطيم الذات الجهنمية. ونجد ملامح برونويل، ذاك “الوحش الرهيب” في شخصيّة روتشيستر القلقة في رواية شارلوت برونتي “جاين آير” (1847). موهبة برانويل المُبكرة لم تكن أقلّ توهّجاً من موهبة شقيقاته، فهو استطاع أن يحفظ عن ظهر قلب صفحة من كتاب قرأها مرّة يتيمة. فقط كان يتمنى جسداً آخر، قامة فارعة وعينين لا تحتاجان الى نظارات طبّية، وقوة جسدية تمكّنه من القضاء على خصومه بحركة خاطفة. لكن برانويل لن يهزم سوى نفسه. سيخيّب أمل أهله، ويراكم الفشل تلو الآخر في مساعيه كلها. سيغرق في ادمان الكحول وستمزّقه نوبات الصرع. هكذا أخذ ينحدر في رحلة بطيئة الى الجحيم، بلغ نهايتها ولما يتجاوز الحادية والثلاثين.
عاش ليونارد وولف حتى الثامنة والثمانين، لكنه أدرك باكراً أن ذكراه ستُحفر في الأذهان كزوج للرمز النسوي والكاتبة فيرجينا وولف، وأن طيفها سيطغى على حضوره في الأدب وفي المخيلة الجماعية. لن تصلنا شخصيّة المحافظ الكولونيالي في “مذكرات سيلان”، ولا مشروع المثقف الاشتراكي والناشر البارز للأدب المُحدِّث، وكاتب السير الذاتية الكلاسيكية. لا شك في أن وولف طبعته تجربة بطله سيلان، ومنحته إدراكاً للانحدار الإنساني ورسّخت أفكاره المُناهضة للامبراطورية، وسمحت له بكتابة “قرية في الأدغال”. تنطوي الرواية على موقف شجاع يتّخذه مسؤول رسمي إزاء تجاوزات سلطات بلاده. وتتناول معاناة فلاّحين يتحكّم بهم أرباب عملهم الإنكليز في جغرافيا مرصودة للبؤس والاستغلال. لكن من منا يذكر كل ذلك؟
في “ليونارد وولف، قصة حياة”، نكتشف أن دور ليونارد يتخطّى منح اسم الشهرة لفيرجينيا. إنه الرجل الذي مكّنها من نشر أعمالها بفضل شرائه دار “أوغارس بريس” التي أداراها معاً، ونشرت أعمال تي. أس. أليوت وغيره. واللافت في سيرة فرجينيا ستيفن ابنة المجتمع الانكليزي الأرستقراطي ذي النزعات اللاسامية الأكيدة، أن ترتبط بيهودي مُفلس حمل هوية الاشكينازي حتى في رجفة يده. ربما بحثت فيه عن رجل آخر، ذاك الذي ثار على انتمائه العائلي، ووجد الادب ملجأه من الصعوبات والحزن. أحب ليونارد النساء، وقال مرة:ً “لطالما جذبني العقل النسائي الذكي والجسد الانثوي”. في وصف علاقة الثنائي، أظهرت فيكتوريا غلاندينينغ حنكة حذرة “كان مستحيلاً أن تُترك فيرجينيا وحدها. أمّنت رفقتهما القريبة أرضيّة أمان مكّنتها من اتخاذ مخاطر شخصيّة وكتابيّة... باتت علاقتهما علاقة تعلّق متبادل”. سيعيش ليونارد بعد رحيل زوجته، لكنه لن يعيش بعدها فعلاً. إذ كتب وهو مشرف على الموت “لا يمكنك الفرار من القدر. والقدر، الذي شعرت به دوماً، لم يرتبط بالمستقبل بل بالماضي”.