strong>هدى إبراهيم
في فيلمها التسجيلي الجديد «يوميات بيروت: حقائق وأكاذيب»، تتوقف المخرجة الفلسطينية ــ اللبنانية مي المصري، عند صورة عبرت، لم ننتبه إليها في غمرة الأحداث التي تسارعت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. إنها صورة الشباب اللبناني الباحث عن ذاته وسط غشاء كثيف من الضباب، شباب يسعى إلى إلغاء الطائفية والفساد السياسي. إنّها باختصار صورة عن حلم كانت الاستفاقة منه بمرارة الحنظل. الشريط اخترق الحصار أيام عدوان تمّوز، ووصل إلى باريس ونال جائزة معهد العالم العربي الكبرى للفيلم التسجيلي وشارك في مهرجان «ليساس» (فرنسا) ومهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية.
وها هو «يعود» إلى بيروت، مفتتحاً مساء الأحد الدورة الثامنة من «مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية». تغوص المصري في مكان حميم من الذات، عبر شخصية الطالبة نادين التي كانت أول من نزل إلى ساحة الشهداء بعد استشهاد الحريري، «على رغم أن حزبها لم يشارك».
كاميرا المصري بدورها في «ساحة الاستقلال» حسب التسمية السائدة، تلتقط التفاصيل، تحاول أن تفهم... تعبر أمامها (أمامنا) نماذج بشرية مختلفة في مفاهيمها وهويتها، إلى درجة تحوّل المخيم الذي أقامه الشباب في ساحة الشهداء عفوياً، صورةً عن الوطن القائم أو ذاك المنشود. تحت تلك الخيم، راح نموذج وطن يتشكّل من خلال اللقاءات التي جمعت هؤلاء الشباب... ومن خلال العراكات أيضاً.
من تلك الساحة التي غصّت بالشبان المحتجين في شباط (فبراير) 2005، نقلت المصري ما لم تلتقطه عين أخرى في أزمنة الكلام والعبور. عاشت كاميرا مي بين هؤلاء الشبان، حتى كادت تصير منهم. تتبنّى أوهامهم ونقمتهم وأحلامهم. لكن مع الوقت، تنهار جبال الوهم وسنكتشف في النهاية كيف استخدمت تلك الحشود الصادقة من قوى سياسية حققت مآربها، ورمت الجماهير الطيبة جانباً، وعاد المشهد السياسي السابق إلى مجاريه الطبيعية.
تحكي نادين عن الجميع، فتكتمل صورة شريحة واسعة من المجتمع اللبناني، جيل ما بعد الحرب الأهلية الباحث عن ذاته وعن هويته وقضيته في المجهول. نكتشف من خلال نادين التي تلعب دور الرابط بين شخصيات الفيلم، أن كثيراً من هؤلاء الشباب الذين احتلوا الساحة يتصرفون بطريقة مستقلة عن ذويهم. ونادين التي خرجت من علاقة عاطفية مباشرة قبل الحادثة، وجدت في المكان ــ الرمز، و «المقيمين» فيه، أرضية خصبة لتحقيق الانتماء. ومن خلال تلك القصص التي تلملمها المصري، يطل الشريط على تحولات المجتمع اللبناني والعلاقات الأسرية التي تغيرت طبيعتها في بلد الاهتزازات والحروب الأهلية الدائمة.
«يوميات بيروت» يعرّي جملة من الانطباعات الخاطئة عن الشباب اللبناني. على عكس ما كان شائعاً، أظهر هؤلاء أنّهم يتمتعون بوعي سياسي. حتى أصغرهم كان يملك مفاهيمه السياسية ووعيه بالواقع الذي يعيشه، وله مطالبه وكلمته في المخيم الذي تحول إلى مكان فعلي لممارسة الديموقراطية، ومساحة لإقامة علاقة مع الآخر في نظام تعايش ممكن... لكن عسير أيضاً.
بحرفية عالية تنساب صاحبة «أحلام معلقة» مع الكاميرا، تترك لها أن تتجوّل داخل المعمعة، تنسلّ إلى الروح المخيّمة على المكان. كل يريد معرفة حقيقته الضائعة بين أكاذيب كثيرة... ومنها كذبة ساحة الحرية. وبين نادين والشاب «القبضاي» والشخص الذي يقول إنّه «مصدوم» في بحثه عن المجتمع المثالي، وبين بائع القهوة الذي يؤكد أنه من مزارع شبعا ويسخر بالإنكليزية من تيري رود لارسن الذي «وضع المزارع في الجانب الآخر من الخط الأخضر»، تكتمل الصورة راسمة خريطة المكان.
ويقفز بنا الفيلم فجأة خارج «مسرح الحدث»، أي ساحة الشهداء. نرافق نادين إلى كليتها (كلية الإعلام) حيث يدور نقاش بينها وبين شبان من مناصري حزب الله. تقترح عليهم نادين النزول إلى الساحة للتحاور مع الآخرين، فيكون الجواب أنّ بوش يستخدم نادين للكلام باسمه. من خلال الحوار، يكتشف المشاهد كم أنّ الشرخ القائم كبير، ليس فقط بين الشباب أنفسهم، بل على نحو أكثر دراماتيكية بين الشباب والطبقة السياسية الحاكمة. وفي نهاية فيلم المصري، تتصاعد الخيبات، ونكتشف كيف أنّ مطالب الشباب الذين ضاقوا ذرعاً بالفساد السياسي وتوريث الحكم... تندثر في مهب الريح. تصادرها القوى السياسية نفسها التي تقف حاجزاً ضد التغيير والإصلاح. هؤلاء الشباب كانوا أول من جاء إلى وسط البلد، إذا بهم «يُطردون» من القصة مع شعور بالمرارة. يكتشفون أن الحقيقة كذبة، وأن ثورة الشباب الحقيقية أُجهِضَت، وأن هناك «17 ألف حقيقة مفقودة» (بعدد المفقودين في لبنان).
موضوع المفقودين الذي سبق أن عالجه الثنائي مي المصري وجان شمعون، يعود ليسكن «يوميات بيروت». لقد جاءت لغة الفيلم ناضجة متحكمة بموادها وعناصرها، ناقلةً صورة مؤلمة عن واقع الشباب اللبناني. هكذا، تتوج مي المصري في شريطها مسيرة سينمائية كرستها لرصد الهامش، بحثاً عن البعد الإنساني الذي تقوم عليه القضايا السياسية والوطنية الكبرى، من لبنان إلى فلسطين. في تلك المنطقة المنسية تنبت الحكايات، وتروح تنتظر من يرويها وينقذها من النسيان. مي المصري حكواتية الأيام العسيرة والأزمنة الرديئة.