محمد خير
«الجريمة السياسية» من المواعيد القليلة على
الشاشة العربية التي تعيد الاعتبار الى نوع منسي هو البرنامج السياسي الوثائقي. لكن «الجزيرة» التي عرضت أخيراً الجزء الثاني من اغتيال حسن البنا، أخطأت هذه المرّة مسرح الجريمة.


على مدار عامين، لم تنتج قناة «الجزيرة» سوى سبع حلقات من برنامج «الجريمة السياسية»، تناولت فيها خمسة حوادث اغتيال. قد تبدو هذه الندرة مبررة لأسباب عربية مفهومة. فالعمل الوثائقي، ولا سيما السياسي، يحتاج إلى أماكن تصوير أصلية، وبالتالي استصدار تراخيص بالتصوير من السلطات المعنية. كما يحتاج إلى شهود عيان، وهؤلاء ـــ في عالم السياسة العربية ـــ يندر أن تعثر عليهم خارج السجن أو القبر... أو السلطة!
هكذا، تم تصوير أربع من الحلقات السبع في مصر: اثنتان عن اغتيال السادات واثنتان عن اغتيال حسن البنا. أما الحلقات الباقية، فصُوّرت في لبنان وتغوص في تفاصيل اغتيال رياض الصلح وداني شمعون وكمال عدوان... بلدان عربيان فحسب، لم تستطع الفضائية القطرية «اختراق» سواهماوعلى الرغم من ذلك، يبقى «الجريمة السياسية» مادة جيدة، تتميز بها «الجزيرة» عن سواها، وخصوصاً أن البرامج السياسية الوثائقية باتت عملة معدومة عربياً. يرتقي البرنامج خطوة خطوة، في حلقته التي عرضت مساء الجمعة عن حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهو أعاد إلى الأذهان مشهد الاغتيال الغامض الذي أسس لمفهوم «الشهيد» في عصر «الصحوة» الإسلامية المعاصرة.
يستعين البرنامج بإعادة تمثيل الحادثة لتعويض نقص المادة الفيلمية. المفارقة هنا أن إعادة التمثيل بما استلزمته من بناء للديكور واهتمام بالملابس التي تعود الى حقبة الأربعينيات، تفوقت على العديد من المسلسلات الدرامية التي “تحترف” الأخطاء الساذجة. ولا يُعدّ الأمر غريباً عندما يعرف المشاهد أن المخرج هو تامر محسن الذي حصد العديد من الجوائز في مهرجانات الأفلام الروائية القصيرة.
أما ضيوف حلقة البنا، فكانوا في معظمهم بديهيين مثل المفكر طارق البشري والدكتور رفعت السعيد. كما استضاف البرنامج أسماءً أخرى، يحار المشاهد في كيفية عثور فريق العمل عليهم. فبينهم أعضاء وكوادر في «النظام الخاص»، وهو الجناح العسكري الذي أسسه الإخوان قبل ثورة يوليو، وجميعهم طعنوا في السن وابتعدوا عن الأضواء. ولأن شيخوختهم لم تؤثر في حماستهم، فقد أضفت هذه الحيوية على حضورهم بعض الصدقية، التي لا يستحقونها تماماً. إذ من الصعب أن يتحدث هؤلاء عن قمع النظام الملكي من دون الإقرار بأن النظام الخاص للإخوان المسلمين هو الذي افتتح مرحلة العنف السياسي في التاريخ المصري الحديث، عبر اغتيالهم النقراشي رئيس الوزراء المصري عام 1948.
وعلى الرغم من تركيز البرنامج على علاقة جمال عبد الناصر بالإخوان، أوحى الغرق في تفاصيل أداء ناصر للقسم الإخواني، بالتوازي مع التفكير الانقلابي لحسن البنا، بأن ناصر كان مشروعاً إخوانياً في الأساس، بينما كلنا يعرف اليوم أن ناصر تنقّل بين غالبية التيارات السياسية.
حين تتعرّض الحلقة لمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر في المنشية عام 1954، نسمع صوت المعلق: «بعضهم قالوا إن محاولة الاغتيال كانت عملاً فردياً، فيما قال بعضهم الآخر إنها كانت فخّاً نصبه عبد الناصر للإخوان، كي يتسنّى له سجنهم». في الواقع، هذا “البعض” و“ذاك”، كلاهما ينتمي إلى جماعة الإخوان أنفسهم. لقد شهد التاريخ مثل هذه «المؤامرات» كثيراً، لكنه لم يشهد قطّ حاكماً يعطي مسدساً لخصمه حتى يطلق عليه ثماني رصاصات كما حدث في المنشية. ولو كان عبد الناصر بهذا الخيال وذلك التهور، لاستحقّ كل التهنئة!