بيار أبي صعب
ذات يوم مشؤوم من آذار (مارس) 2002 نشب حريق في مدرسة للبنات في مكة المكرّمة، أودى بحياة 15مراهقة. لكن قلّة في المملكة السعودية جرؤت يومذاك على التعليق، بشكل نقدي، على خبر الكارثة التي كان يمكن تداركها... لولا الخوف من رؤية فتيات حاسرات. قلّة رفضت الاكتفاء باعتبار الحادث المؤسف قضاءً وقدراَ، أو حسب الرواية الرسمية “خطأ تسبّبت به الطالبات” المهرولات ذعراً، هرباً من النار! كان يمكن أن نعد على أصابع اليد الواحدة الإعلاميين والكتّاب الذين ربطوا بين الفاجعة وخلفياتها السياسية، مسلطين الضوء على الوضع المزري للمرأة في المملكة، وبشكل محدد الموقف المتخلف من تعليم البنات: 800 طالبة في مدرسة لا تستوعب أكثر من 250، في مبنى بال من دون منفذ طوارئ أو جهاز انذار، كانت صلاحيته القانونية قد انتهت قبل ثلاث سنواتstrong
بين تلك القلّة، بل في طليعتها ربّما، كاتب وإعلامي اسمه... داوود الشريان. هذا الصحافي السعودي الذي عوّد قراءه أن يقول عالياً، ما يفكّر فيه كثيرون في قرارة أنفسهم، داخل السعودية وخارجها، لفت الأنظار منذ سنوات بجرأته وقدرته على النقد والسجال الهادئ. واحتل مكان الصدارة بقلمه المشاكس الذي يزعج المؤسسة الرسميّة، بقدر ما يقلق طمأنينة أصحاب الخطاب الجاهز والنظرة المحنّطة، الاختزالية، الى واقع شائك ومعقّد ـــ ومتحرّك ـــ مثل الواقع السعودي!
هذا هو داوود الشريان باختصار، كما يمكن أن يراه قارئ من خارج السعودية، معني بها، ومراهن على تحولها الاجتماعي البطيء وانفتاحها الحضاري (الانفتاح بالمعنى التقدمي طبعاً، بعيداً عن أي صدى “ساداتي” للكلمة). من هنا فإن نبأ تعيين الشريان نائباً للمدير العام لقناة “العربيّة”، ومشرفاً على مكتبها في الرياض، لا يمكن أن يمرّ من دون أن يلفت الانتباه، ويثير الاهتمام والترحيب.
قد لا يعرف كثيرون أن حب المسرح هو الذي حمل داوود الى مهنة المتاعب. لقد بدأ حياته المهنية محرراً فنياً في جريدة “اليمامة”، قبل أن يصبح مراسلاً لوكالة “أسوشيتد برس”، ويحمل مقالته “أضعف الإيمان” من منبر الى آخر، من “اليوم” و“البلاد” و“الرياض”، وصولاً الى “الحياة” التي يطل منها على قرّائه منذ سنوات، متجاوزاً الخطوط الحمراء، محركاً المبضع في الجراح. ترأس الشريان أيضاً مطبوعات إسلامية مثل جريدة “المسلمون” ومجلّة “الدعوة”... أما الإعلام المرئي والمسموع، فحط رحاله فيه قبل سنتين فقط، منذ بدأ يقدّم، على فضائية “دبي”، برنامج “المقال” المثير للجدل، مستضيفاً شخصيات عربيّة بارزة في عالم السياسية والفكر والأدب والثقافة أيضاً.
داوود الشريان هو قبل كل شيء صحافي يصعب تصنيفه، وإن كان يغرّد خارج السرب، ويراهن على الاختلاف، محصناً بقوّة ضدّ فخاخ المذهبية المقيتة التي تبدو من أساسات “الشرق الأوسط الجديد”! عندما صدر “بيان المثقفين السعوديين” رداً على أقرانهم الأميركيين بعد 11 أيلول، طالب السلفيين بين موقعيه بالاعتذار عن مواقفهم السابقة “حتى يصدّق الرأي العام أنهم تغيروا فعلاً”. وحين حاور أدونيس على شاشة “دبي” لم يتردد في تحميل النخب العربية قسطهم من المسؤولية في ما وصلنا إليه اليوم. ولم يتردد ذات مرة في الانتصار لبعض المنتمين الى التيار الإسلامي المتشدد الذين رفعوا حدّة النقاش خلال إحدى ندوات معرض كتاب الرياض حول “الرقابة الإعلامية ومتغيرات العصر”، منتقداً مدير الندوة تركي السديري على موقفه “الإقصائي” بحقّهم...
في “العربيّة” حيث رحّب به بحرارة زميله عبد الرحمن الراشد، المدير العام للمحطّة، بدأ كثيرون يراهنون على دور داوود الشريان. هل سينجح في تعديل ميزان توجّهات هذه المحطّة قليلاً، بحيث تقترب بعض الشيء من مزاج الشارع العربي، وتتفادى التماهي غير المشروط مع خيارات الإدارة الأميركية الحالية في المنطقة؟