جوان فرشخ بجالي
“بعد أن تتجاوزوا موقع الجيش الإسرائيلي المرابط في البياضة، تكملون الطريق إلى قلعة شمع الواقعة على رأس التلة، ولن يتعرض لكم أحد”. بهذه الكلمات أرشدنا المجند الواقف عند حاجز للجيش اللبناني في المنطقة نفسها إلى طريقنا.
مررنا من أمام جنود إسرائيليين، ولولا التحذيرات ونجمة داوود المرفوعة عالياً لما عرفنا أنهم ما زالوا في جوار القلعة الصليبية التي دمروا جدرانها الخارجية والحصن الداخلي بقصفها من الطائرات الحربية.
سكوت المقابر يخيم على القلعة وعلى المقام المدمر جزئياً. ما من عصافير تغرد، ما من أحد يرحب بزائر، أو ينذر بوجود قنابل وصواريخ لم تنفجر. لا أحد هنا ليتنفس رائحة التبغ المشمس في الحقول. يظهر فقط هر ضائع يفتش بين أشلاء أمثاله عمّا يقتاته.
قصفت الطائرات الإسرائيلية المئذنة خلال العدوان فغاصت عدة أمتارٍ داخل الأرض. وسد الركام وبقايا المبنى باب القلعة والمقام. في غرف استقبال زوار بيت الصلاة هذا يبس الشاي في الأقداح المتروكة على الطاولة، وكأن شاربوه هربوا في دقائق.
يعلو أرض القلعة الركام وحجارة الأسوار التي تحطمت وتطايرت في الأرجاء. يصعب في الوقت الحاضر تحديد الدمار الذي حصل في كل من قاعات أو باحات القلعة، فالتنقل داخل المبنى خطر بفعل الانهيارات وإمكان وجود قنابل عنقودية أو صواريخ غير منفجرة، ولكن يمكن القول بأن الأسوار الخارجية للجهة الشمالية قد دمرت بالكامل. وربما أدى ذلك إلى تدمير الحصن الذي شيد في الجزء الشمالي من القلعة وداخل أسوارها ليكون مقراً لحكامها.
يقول علي بدوي، مدير منطقة الجنوب في المديرية العامة للآثار: “إن القلعة مقسمة إلى أربعة أجزاء: الحصن، والمقام، والمعصرة، والقرية. وتزيد هذه الأخيرة أهمية القلعة التاريخية، إذ إنها موقع أثري “حي” يتفاعل فيه البشر مع الحجر”.
كان الحصن المكان الأكثر جاذبية بالنسبة إلى زائري القلعة التي يعطيها جمالاً هندسياً. وهو يتألف من ثلاث طبقات، استخدمت الطبقة السفلى كإسطبل ومخزن، فيما كان الطابق الأول مقراً سكنياً “لا يزال يحتفظ بفخامة متواضعة، بحيث زينت واجهاته بالأحجار البيضاء والسوداء، وكانت إحدى الغرف لا تزال تحتفظ بزخارف جصية ومدافئ تقليدية من النمط المعروف بالداخون” كما قال بدوي.
أما بالنسبة إلى المقام فهو أكثر أجزاء القلعة حيوية، إذ يزوره المؤمنون من كل أقطار الجنوب، وهو كان قد جدد في المرحلة الأولى في الفترة الفاطمية، ومن ثم في القرن الثامن عشر. وتجدر الإشارة إلى أن بناء المقام متين جداً، فقد استهدفت الغارة المئذنة ولم يهو معها البناء الذي خسر فقط جزءاً من القبة والمدخل المعقود سقفه.
تضاف خسارة كل هذه المعالم إلى اللائحة الطويلة للأضرار التي سببتها الحرب الإسرائيلية على لبنان. لكنها أضرار من نوع آخر، وتصنف بحسب اتفاقية “لاهاي 1958” جرائم ضد التاريخ والإرث الثقافي، وكانت إسرائيل – كما لبنان – قد وقعت على الاتفاقية.
بعد أن تثبت الدولة اللبنانية أن هذا الموقع الأثري لم يستعمل كموقع عسكري من قبل مقاتلي حزب الله، يمكنها مقاضاة إسرائيل أمام القانون الدولي والمطالبة بالتعويض.
والجدير بالذكر أن المديرية العامة للآثار اللبنانية قدمت ملف قلعة شمع إلى مؤتمر استوكهولم مطالبة بمبلغ يقارب نصف مليون دولار لتمويل ترميم وتأهيل الموقع بشكل أولي بانتظار مشاريع أكبر. وتمت الموافقة المبدئية على هذا الطلب.



تاريخ القلعة

القلعة التي طالها القصف الإسرائيلي على أعالي التل الذي يحمل اسمها وموقعها استراتيجي، تشرف على السهل المحيط بمدينة صور وعلى الطريق الساحلية المؤدية إلى فلسطين. ويشرح بدوي أن “هذه القلعة الصليبية تُعرف بقلعة شمع تيمناً بالمقام المبني داخل أسوارها الذي ينسب للنبي شمعون الصفا، وهو الرسول سيمون الذي توفي في القرن الميلادي الأول”، ويضيف أن الصليبيين “هم أول من بنى القلعة في القرن الثاني عشر الميلادي وبقيت تحت سلطتهم حتى أواخر القرن الثالث عشر بعدما احتلها المماليك ولم تعد لها مكانة عسكرية مهمة فغرقت في النسيان حتى القرن الثامن عشر حينما أصبحت من أملاك آل الصغير، فخضعت لعملية “ترميم” بحيث يعود معظم أجزائها الظاهرة الآن إلى هذه الفترة”.
إن الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي ليس بجديد على هذه القلعة، فخلال الاحتلال الإسرائيلي دمرت أجزاء منها وأُزيلت بوابتها التاريخية.