strong>نبرة «الانتصار» واضحة على شاشة «المنار» التي استمرت في البث، طوال فترة العدوان على لبنان، رغم تسوية مبناها بالأرض. كيف قاومت «المنار» الإصرار الإسرائيلي على استهدافها؟
مهى زراقط
لم يعد الاتفاق على موعد للقاء مدير العلاقات العامة في تلفزيون “المنار” ابراهيم فرحات أمراً مربكاً كما كانت عليه الحال خلال العدوان على لبنان. فكان كل اتصال به آنذاك يتبعه استعراض لمقاهي العاصمة من أجل اختيار مكان “آمن” لإجـــراء المقابلة فيه. أما اليوم، فبات بإمكان فرحات مجدداً أن يدعوك هو إلى المقهى... لكنه المقهى المـــجاور لمـــبـــنى قناة “المنار” المدمّر!
بحركة تكاد تصبح اعتيادية، يحمل فرحات إحدى الكراسي المتبقية في المقهى المتضرّر، وينقلها من ركن يجلس فيه زملاؤه، إلى آخر يطلّ على ركام المحطة التي سوّيت بالأرض. مشهد لا يمكنك إلا أن تبدأ حديثك منه: “ماذا بقي لك من مكتبك؟” يجيب: “لم أستطع إخراج الكثير من الأشياء التي تهمّني، لكنني أخرجت دفتر الهاتف لأنه أساسي في عملي”.
فرحات الذي أنقذ دفتر هاتفه، كان يعلم أنه لن يحتاج إليه بقدر ما سيحتاج إلى الرد على اتصالات عشرات الصحافيين الراغبين في طرح سؤال يتيم بقي معلّقاً: “من أين تبثون؟”. لذلك تتّسع ابتسامته وهو يستبق طرح “الأخبار” للسؤال ذاته بالقول: “لا تزال بعض أماكن البث سرّية. لم يحن الوقت بعد لكشفها”. وتكتشف خلال الحوار أن هناك الكثير من الأمور الأخرى التي “لم يحن الوقت بعد لكشفها”، منها أسئلة تتعلّق بتنقلات الموظفين، والمشاكل التي يتعرّضون لها، والتجهيزات التي أُنقذت، ووتيرة العمل...
حملة أوروبية
يقول فرحات إن استهداف “المنار” لم يبدأ مع هذه الحرب، “بل منذ منعها في فرنسا قبل عامين، ما شكّل بداية لحملة أوروبية عليها وصلت إلى تصنيفها منظمة إرهابية من الأميركيين في آذار الفائت. وهي سابقة تاريخية أولى من نوعها”.
بناءً على هذه السلسلة من الاستهدافات “المعنوية”، توقّعت إدارة “المنار” أن تتعرض لضربة عسكرية (ما لم يحصل في اعتداءي 1993 و1996). لذلك أُخلي المبنى من الموظفين في اليوم التالي لعملية الأسر “لكن بقي عدد محدود من العاملين لمدة يومين قبل أن يتعرض المبنى للهدم بشكل مباشر”.
غير أن التدابير البديلة لم تكن تنتظر قرار الإخلاء أو حتى وقوع الحرب، «الخطط البديلة كانت جاهزة، لذلك استطعنا معاودة البث من مكان آخر فور انقطاعه من المقر الرئيسي. والفضل يعود إلى الفريق التقني الذي استطاع حلّ الأمر، محافظاً على السريّة”.
ولم يقتصر الحرص على استمرار البث، بل على ضمان أفضل الظروف له، وهذا يشمل أيضاً الديكور الذي لم يتغيّر عن الأساسي في الاستديوهات التي ألفها المشاهدون. «بذل الزملاء جهوداً مضاعفة كي تكون الأمور على أفضل وجه. كل هذا الجهد كان حافزه الشعور بالتحدي لأننا كنا مستهدفين بشكل مباشر». ويثمّن جهود التقنيين الذين كانوا يسارعون إلى إصلاح كل عطل قد يطرأ بأبسط المعدّات: «من خلال تبديل أجهزة إرسال أو تغيير في اتجاهات بعضها وفقاً للمناطق، ولا سيما في تلك التي دُمّرت بشكل كامل».
على رغم ذلك، يرفض فرحات القول إنه كان يكفي قناة “المنار” الاستمرار في البث خلال فترة العدوان ليقال إنها نجحت. «نجحنا أيضاً في الحفاظ على صدقية أخبارنا، وتفوّقنا في الأخبار المتعلّقة ببيانات غرفة عمليات المقاومة».
محطات أخرى
وإذا كان الالتزم بالسريّة مطلقاً، فإنّ فرحات ينفي بشكل قاطع استعانة “المنار” بتجهيزات من محطات تلفزيونية أخرى. كما يستبعد أن تكون محطات الإرسال التابعة لها تعرّضت للقصف بحجة أنها قد تكون تساعد “المنار”في البث: “هذا غير صحيح على الإطلاق. قصف محطات الإرسال الأخرى يدخل ضمن استراتيجية تعطيل دور الإعلام الذي يكشف حقائق المعركة. اعتمد الاسرائيليون استراتيجية إعلامية واضحة في ضخ المعلومات الكاذبة،
ومــــن الـــمفيد الإشارة إلى أنها من أكثر الحروب التي كذب فيها الاسرائيلي. لذلك هم حاولوا تعطيل وســـائل الإعــــلام المقابلة ولم ينجحوا».
ويقدر حجم الخسائر التي لحقت بالمحطة بملايين الدولارات: “ملف الخسائر أنجز تقريباً. جاء حجمها كبيراً، وخصوصاً أننا كنا استحدثنا استديوهات واستقدمنا معدات جديدة. عدا الأرشيف الذي لا نعرف بعد ما الذي بقي منه».
صمت الأمم المتحدة
لا يفوت فرحات أن ينوّه بالمنظمات التي ندّدت بالاعتداء على المنار لا سيما منظمة «مراسلون بلا حدود التي جاء مسؤولها روبير مينار إلى لبنان خلال الحرب وزار أنقاض المحطة في وقت كانت الضاحية تتعرّض فيه للقصف». لافتاً في الإطار نفسه إلى عدم صدور أي موقف عن الأمم المتحدة «على رغم وجود قسم خاص بالإعلام في مركز المنظمة الدولية».
هل السّرية التي حمت «المنار» في المرحلة الماضية مستمرة إلى أجل غير مسمى؟ «بالطبع لا يمكننا الاستمرار في العمل سرّاً. يفترض أن ننتقل إلى مكان معلن نكشف عنه في الوقت المناسب». ويختم حديثه مبتسماً، وتاركاً السؤال معلّقاً كعادته!


ذاكرة مشتّتة بين الأنقاض
حوراء حوماني

عادوا إلى المكان فجأة. تركوا المكاتب السريّة التي يعملون فيها وتراكضوا صوب الأنقاض فور سماعهم خبر نجاة أجزاء من مبنى تلفزيون “المنار”. وصلوا مبتهجين على غير عادة من يأتي ليلمّ أشلاء ذاكرة جماعية. المديرون وموظفو الادارة والارشيف في القناة انكبوا على حمل ما صمد من الكتب والملفات والاشرطة والنصوص المكتوبة والمعدات. لم يطلبوا المساعدة من احد. لم يكترثوا للرمال المتطايرة في عيونهم، وهم ينفضون غبار العدوان عن اشيائهم. حتى انهم لم يستخدموا الكمامات المخصصة لدرء الغبار، عسى ان يتسنى لأحدهم الصراخ مبشراً بعثوره على شيء خاص بزميله. خلال وقت قصير، كانت الاكياس تملأ الشاحنة المخصصة لنقل الاغراض الى مكان تفرز فيه قبل اعادة توزيعها على الأقسام التي تحتاج إليها.
على رغم صعوبة المشهد، كانت السعادة بادية على وجوههم جميعاً. أشرطة وملفات كثيرة لا تزال صالحة: حلقات عن سمير مطوط، أرشيف ورقي لبرنامج “المهمة” الثقافي الذي يتبارى فيه المشتركون للوصول الى القدس... عاد الموظفون أدراجهم فرحين بكل ورقة ناجية، عليها ستكتب ذاكرة جديدة.