هل من الممكن كتابة قصيدة جيّدة وفوريّة عن الحرب؟ الحرب حدث مباشر، وكل حدث مباشر يطرح عادة اشكاليات من هذا النوع. ولعلّ العدوان الأخير على لبنان، طرح مثل هذا السؤال على شعراء كثيرين.
حسين بن حمزة
في عقود سابقة، كان الشعراء ـ بغض النظر عن جودة ممارساتهم الشعرية ـ يحصلون على نقاط إضافية بسبب مواقفهم الأيديولوجية ونضالهم من أجل قضايا معينة. “لن يقولوا كانت أزمنة سيئة/ بل لماذا سكت الشعراء”، غالباً ما كان يُرمى هذا القول المأثور لبرتولد بريخت في وجه المثقفين عامة.
اليوم تغيرت الصورة. سقطت الايديولوجيات والأفكار الكبرى أو تفتتت. أسئلة الالتزام والنضال أُقصيت إلى خلفية الصورة، وصارت جودة الكتابة المعيار النقدي الأول في النظر إلى النصوص والقصائد وتقدير أهميتها. وهكذا بات سهلاً على الشاعر أن يكون ملتزماً بانحيازه إلى قضايا المظلومين وأن يحتفظ، في الوقت عينه، بحق قصيدته في تجنب الضغط الأيديولوجي والنضالي المباشر. الموقف الإنساني للشاعر بات معطىً بديهياً اليوم، وعلى الجودة أن تكــــــون سلاح القصيدة الوحيد تقريباً.
في ظل هذا التصور طرحت فكرة الكتابة عن الحرب الأخيرة. شعراء أربعة طرحنا عليهم السؤال نفسه: هل من الممكن كتابة قصيدة جيدة ومباشرة عن الحرب؟
نصر ميتافيزيقي
السؤال يطرح إمكان الجمع بين الجودة والمباشرة. المباشرة كانت دوماً عيباً من عيوب الشعر. لكن بعضهم، وخصوصاً في الأزمات والأحداث الجسيمة، قد يتسامح مع المباشرة ويتقبلها بمرونة أكثر. هذا ما يطرحه سامر أبو هواش الذي يدعو إلى عدم النظر إلى الشعراء كجسم واحد. هناك، في رأيه، شعراء تتمتع لغتهم ووعيهم الشعري بقابلية التعامل مع الأحداث المباشرة أثناء وقوعها، وعدم تمتع شعراء آخرين بهذه الصفة لا يمكن اعتباره نقصاً. أما يوسف بزي فيرى أنه من الصعب العثور على قصيدة جيدة بين القصائد والنصوص التي كتبت عن الحرب الأخيرة. ومردّ ذلك أن شعراء هذا النوع من القصائد ينظرون إلى الحرب بحماسة روحانية وشغف يائس لنيل نصر ميتافيزيقي... ما يجعل هذا الشعر طالعاً من معلّقات خرافية ومنجزة بلغة بكائية أو فروسية.
وترى عناية جابر في طريقة طرح السؤال نوعاً من الحسم على رداءة الشعر في مقاربته الفورية للحرب. لكنها تؤكد أن هناك شيئاً هشاً ومسالماً وشخصياً في الشعر، وهذا يجعله لا يطيق القضايا الكبرى. إشارة عناية جابر من شأنها أن توسّع فضاء السؤال. ليست الحرب فقط ما يجعل الكتابة المباشرة أمراً محفوفاً بخطر انخفاض الجودة. يمكن لهذا أن ينطبق أو يترافق مع أي “قضية كبرى”.
يمكننا القول إن الشعر لم يعد مناسباً للقضايا الكبرى. صار الشعر فناً أكــــــــــثر شخصية وفردية. قبل عقـــــــــود، كان قــــــول مثل هذا الكلام يعتبر تــــــرفاً وبطراً ويثير ســـــــــخط كثــــــــيرين تحت شعار الواقعية والالــــــتزام، وكانت مفــــــاهيم وشعارات مثل: “الكاتب شــــــــاهد على عــــــــصره” و“مرآة الواقع” و“الأدب المـــــــــــــلتـــــــزم”، سائـــــــدة ومطروحة بفــــجاجة أحياناً. كان يقال للمثقف: لماذا لم تكتب عن القضية الفلانية؟ ولماذا سكتتَ حين حدث ذلك؟ اليوم بات الشعر غير مشــــــروط بمفـــــــاهيم الالـــــــتزام والموقف الايديولوجي. وبحسب ما عــــبّر غابرييل غـــــارســـيا ماركيز يوماً، فإن الــــــتزام الكاتب هو أن يكتب بشكل جــــيد بغض الـــــنظر عمّا يكتب.
تتذكر عناية جابر قصائد وطنية أو “حربجية” عاشت طويلاً، بل تعدّ أيقونات ومآثر على صعيد حميّتها الشعورية... لكن الشعر، برأيها، يستعصي على الحرب فلا يقارب مآسيها الكبيرة مباشرة. وهو ما تراه أمال نوار أيضاً، فـ“الحرب حقيقة فاجرة وعارية من الاستعارات، وما من مسافة بينها وبين الشاعر قابلة للتأويل. كما أن طبيعة الحرب الوحشية وانهماكها في لحم الحقيقة الحي لا في مجازاتها تجعل الشاعر العالق بين أنيابها عاجزاً عن فصل إحساسه عن راهنية ما يحدث فيها”. تحتاج الحرب، من وجهة نظر نوار، “إلى مسافة زمنية يربي خلالها وجدان الشاعر مواده الخام... فالارتجال لا تُؤمَن عواقبه، لأنه يستدعي القفز عن مراحل نمو الإحساس الشعري، كي نحظى بالخمر مباشرةً من فم الحقيقة الفج، لا من روحها في الخوابي”.
أكثر حداثة وعولمة
يوسف بزي يأخذ الفكرة نفسها إلى حيز آخر، فيؤكد أن “الشعر يصعب حصره بالانفعالات الجماعية المباشرة، كما أنه ليس وقحاً مثل الكاميرات التي تنبش داخل لحم الجثث”. أما سامر أبو هواش فيميل، من منطق يتجاوز فكرة التصرف الشعري الشخصي تجاه الحرب، إلى الكتابة الجماعية المنطلقة من مشروع واعٍ ومباشر له هدف سياسي وثقافي وإنساني. ويطرح مثالاً على ذلك ما حدث في أميركا إبان حرب العراق، حيث سجل مئات الشعراء من العالم تفاعلهم مع الحرب من خلال قصائد (نشرت أولاً في موقع إلكتروني ثم في كتاب)، تفاوتت في أهميتها ومقاربتها للحدث. لكن المهم، في رأي أبو هواش، أن القصائد باتت تشكل وثيقة أو بياناً أدبياً ضد الحرب.
كلام سامر أبو هواش ويوسف بزي يضعان المسألة في إطار أكثر حداثة وعولمة. الحرب لم تعد تعني ضحاياها المباشرين فقط، والكتابة عنها ليست أمراً يخص أهل البلد الذي تقع فيه الحرب. وهذا ما من شأنه أن يضرب فكرة السؤال الأساسي لهذا التحقيق، ويفتح كوة لإمكان كتابة مشروع شعري عام. وحينها، بحسب أبو هواش، لا تعود الجودة أساس السؤال... بل الموقف العام والجدوى العامة. ولا يكون الشاعر المشارك في المشروع مهجوساً في الدرجة الأولى بالتفوق الإبداعي والجمالي، فيبدو أكثـــــر تسامحـــاً مع نفسه ومع الآخرين.
وفي الوقت الذي يستثني فيه أبو هواش القصائد المبتذلة من مشروع كهذا، فإن عناية جابر ترى أن الرداءة الآن هي السائدة أكثر، وأن الرداءة ما عاد في حسبانها لا الحرب ولا الحب. فهي تكتسح أغلب النصوص، الأخضر منها واليابس، الوطني منها والعاطفي. وتتقاسم أمال نوار النظرة نفسها مع عناية جابر، فتتساءل عما إذا كـــــان في الإمكان كتابة قصيدة جيدة وفورية عن الحب أو الموت أو الألم.
سؤال الكتابة عن الحرب يحمل في طياته أكثر من مغزى. الحرب بصفتها قضية إنسانية كبرى، وخطر الكتابة الفورية عنها أو عن أي حدث آخر، وضرورة إدانة ما يجري... وربّما كان من الأفضل طرح السؤال بشكل آخر: هل يمكن التساهل في جودة القصيدة باسم “الضرورة”، ضرورة قيام الشاعر بتسجيل موقفه مما يحدث؟