strong>“شقاوة الفتاة السيئة” رواية ماريو فارغاس يوسا الصادرة حديثاً في اسبانيا، قد تكون الأقرب الى التجربة الذاتية لصاحبها: في السياسة والأدب و... الحبّ الذي جاءه الأديب البيروفي متأخراً، وأعطاه للمرّة الأولى البطولة المطلقة.رلى راشد

طالما حرّكت ماريو فارغاس يوسا رغبة دفينة في سرد قصة حب. وها هو يحقّق أمنيته في عقده السابع مع رواية “شقاوة الفتاة السيئة” الصادرة حديثاً عن دار “الفاغوارا” الإسبانية.
يمزج الروائي البيروفي بين الذاكرة والفانتازيا، لينسج خيوط علاقة حبّ مضطربة، على خلفية التبدّلات السياسية والاجتماعية التي شهدتها نهاية القرن العشرين. يحلّل يوسا بتأن علاقة شهوانية مُعاصرة محكومة بتمزّق اللقاء والفراق والمعاناة والخيانة. ويتوقّف سليل فلوبير عند حالة إنسانية محددة، كما فعل الأخير في “التربية العاطفية”، والكاتب الفرنسي المذكور الذي يشكّل أحد مصادر إعجابه، يمرّ يوسا على روايته في “شقاوة الفتاة السيئة” من بين مراجع أدبيّة أخرى. ويستعيد في عمله الجديد بعضاً من تجاربه الشخصية على امتداد نصف قرن، تلك الحقبة التي أطاحت بالقيم والعادات، وغيّرت النظرة الى العلاقات الإنسانية والحبّ والجنس. وتعرّج الرواية على أماكن اقامة يوسا المتتالية: ليما البورجوازية في خمسينيات القرن الماضي، وباريس في أيار 68، ولندن “الهيبيّة” في السبعينيات، ومدريد الثمانينيات التي احتضنت تيار “موفيدا” (الحركة المدريلينية). تبدأ أحداث “شقاوة الفتاة السيئة” في البيرو مع حكاية ريكاردو وليلي: ريكاردو سوموكورسيو ابن الطبقة الوسطى غير المسيّس الذي يحصر طموحه بالفوز بحبّ ليلي ذات الأصول البسيطة، حبّ مرَضيّ سيتحكم بقدره. إنها علاقة مستحيلة بين ليلي وريكاردو يعيقها اختلاف التطلّعات بين الشخصين، وهذا ما يعبّر عنه مباشرة من خلال تسميتهما “الفتاة السيئة” و“الفتى الصالح”. ما كان يمكن إلاّ كاتباً بموهبة يوسا أن يجعل القارىء ينساق في يوميات بطل سلبيّ وحبيبة تغيّر أقنعتها، مراهقة لعوب تارةً ومشروع ثوريّة طوراً.
تستعيد الرواية تجربة عاطفيّة يائسة وتصوّر في موازاتها فصولاً مهمة من حياة البيرو، وتعبر فيها أصداء فنانين لاتينيين سحرتهم القارة القديمة قبل أن تُفتتن بهم بدورها. ليلي “التشيليّة الصغيرة” فتاة تحرّكها شهوة المال والسلطة في شتّى علاقاتها. تنسحب بعد كذبة أولى من حياة ريكاردو، لكنه يستعيدها بعد سنوات وقد خلعت عنها هويّتها لتستبدلها بأخرى في باريس. يعود إليها لحظة وقوفها على مفترق طرق بين كوبا ومستقبلها الثوري.
ويتابع القارئ علاقة ريكاردو وليلي على امتداد أربعة عقود، على وقع ارتقاء أحلام الثورة ووصولها الى قلب باريس التي تحوّلت محطة مرور لشباب يساري قادم من كوبا أو من الصين، للانخراط في الحركات الثورية. ثمة تشابه بين رواية يوسا الجديدة، وأعمال سابقة له، مثل “العمّة خوليا والناسخ” حيث يُطبّق المنحى السردي الشخصي على الحكاية، أو “المدينة والكلاب” حيث تأتي الفكاهة لتدوّر الزوايا، ضمن حبكة دراميّة آسرة، وحيث يتمّ التركيز على النزعة الشهوانية... لكن الحبّ في “شقاوة الفتاة السيئة”، يلعب للمرّة الأولى في أدب يوسا، دور الشخصية الرئيسة، والبطولة المطلقة.
يقول يوسا إنه اكتفى بإغماض عينيه واستعادة سنوات كان خلالها ــ مثل أبناء جيله ــ شاهداً على الأحداث ولاعباً فيها. بعد تجربة البحث في الديكتاتورية والغوص في التاريخ، يستعيد يوسا في هذه الرواية أحلام شبابه ويُلبسها ثوب التخيّل. في ستينيات القرن العشرين يقيم ريكاردو في باريس مثل يوسا نفسه آنذاك. واختيار تلك الحقبة السياسية الصاخبة في أوروبا وفي أميركا اللاتينية على السواء، يجعل الشخصية أشدّ التصاقاً بمبتكرها.
ويمضي يوسا هنا في إعادة خلق عالم روائي متعدد الوجوه والمناهل. يكتب تجربة معاصرة أُضيفت إليها سمات أدبيّة جمالية، حملت الحكاية نحو جو من الفانتازيا. طالما تكوّنت أعمال يوسا من توليف لأكثر من حكاية تتطوّر الواحدة بموازاة الأخرى لتتقاطع لاحقاً، فيما تدور “شقاوة الفتاة السيئة” في إطار أفقي يتّبع تطوراً زمنيّاً واحداً يبدأ في خمسينيات القرن العشرين وينتهي عند تخوم الحاضر.
تشهد الرواية ابتعاداً عن مفهوم الذكورة التقليدي في روايات يوسا، إذ يطالعنا رجل يخضع تماماً لإرادة امرأة. إنها بلا شك رواية شخصيّات لا رواية أحداث في معالجتها للحب في عمر متقدّم، تذكّر “شقاوة الفتاة السيئة” بمنحى “الحب في زمن الكوليرا” لغارسيا ماركيز. إنها قصة حبّ مطعّمة بالسياسة أو بالتاريخ، وعالم أدبي ترشح منه خيبة الأمل... المناخات تذكّر أحياناً بأسلوب بلزاك، ويأخذنا البعد الميلودرامي الى استعادة بعض شخصيّات إميل زولا. وهناك إحالات أدبية كثيرة في الرواية: ريكاردو يشاهد في قاعة باريسية فيلم جون فورد الشهير “العربة”، المُقتبس عن كتاب لموباسان. وقد أعطى يوسا شخصيته النسائية الرئيسة زخماً وحيوية، كما في رواية موباسان، فإذا بها من لحم ودمّ بقدر ما هي شخصيّة روائية بامتياز. مع رواية “شقاوة الفتاة السيئة” نكتشف وجهاً جديداً من وجوه ماريو فارغاس يوسا. ولعلّ الأديب البيروفي الشهير يكشف هذه المرّة عن وجهه الحقيقي!