بيار أبي صعب
الساحة الثقافيّة تغصّ بالأبطال الأبطال والضحايا. الأبطال الذين فشل مشروعهم فصاروا ضحايا، وازدادوا بطولة طبعاً. الأبطال الذين يضيق بهم العالم، ولا تقبل بهم البنى السائدة، وليس لهم سوى أن يهيموا على وجوههم، مثل شعراء التروبادور... يحملون شكواهم وبطولاتهم المؤجلة.
هناك فئة خاصة من المعنيين بالشأن الثقافي، إنتاجاً واستهلاكاً وترويجاً، يجمع بينهم القهر نفسه، وتلك المرارة التي تُستَهلّ بها أحاديث المقهى عادةً، وترصع بها القصائد والمقالات. إنهم أعضاء حزب سري خطير، يكاد يبتلع العالم، مواطنو هذه الأزمنة الرديئة التي لا تفهمهم، ولا تقبلهم. ـ عندي مشروع مسرحية أعمل عليه منذ سنة، لكن الظروف كلّها ضدّي. الممثل تركني، ومدير المسرح طردني، والتمويل لم بأت. ـ المدينة لم تعد تتسع للنقاش، لذلك قررت أن أصمت. ـ الشعر؟ من يقرأ الشعر؟ ومن يفهمه؟ لقد ولّى زمن الشعراء، وأنا توقّفت أساساً في منتصف القصيدة! ـ الجمهور تقليدي ومحافظ، شوهه التلفزيون، وغرّبته الثقافة الاستهلاكية، فأين تريد مني أن أقدم أغنياتي؟ ـ ليس هناك أي ناشر يقبل بمخطوطتي، لأن لغتها خارجة على القواعد، وموضوعها صادم للمجتمع. ـ لم يأخذوا فيلمي في المهرجان الفلاني لأن مدير اللجنة رجعي وحقود، ومتعصب مذهبياً فوق ذلك. ـ الغاليريهات كلها تجاريّة، وأنا لا أرسم للبورجوازية. قررت أن أتوقف عن الرسم، أن أعتزل الفنّ، أن أغيّر لغتي واسمي. قررت أن أهاجر.
يعيش هؤلاء في عالم من المشاريع المجهضة، والفضاءات المغلقة، محاصرين بكل أشكال الظلم والرقابة واللامبالاة. لكن يبدو أن هذا العالم بديع وجميل: إن معظم الذين جعلوا من التشكّي هوايتهم المفضلة، بل مهنتهم الفعليّة، يعيشون في تناغم نموذجي مع ذلك العالم القاتم والمحبط. الضحية تربطها أحياناً علاقة تواطؤ مع جلادها. ورعايا مملكة القهر يعيشون إحباطهم بمتعة سرية أيضاً.
هل هناك ذريعة أجمل تُعفيهم من لحظة الاستحقاق، ومواجهة الذات والآخر؟ منطق الضحية حين يتحوّل مؤسسة “إيديولوجية”، يصبح تربة خصبة لكل أشكال الابتزاز والمراوغة والاستقالة. تُرى إذا تمكن المبدع المقموع من عرض مسرحيته الممنوعة، وفيلمه المستبعد، ولوحته الصادمة، وعمله الموسيقي الطليعي... وتمكّن الكاتب من نشر كتابه الملعون، ماذا ستكون النتيجة؟ وكم فناناً سيصل الى نهاية مشروعه أصلاً، لو توافرت له كل الإمكانات؟ كم مثقف “مقموع” يجيد استعمال الحرية حين تتاح له؟
لا يمكن الدفاع عن الأوضاع القائمة طبعاً، لكن خطاب البؤس هو حكماً جزء أساسي من الثقافة السائدة!