strong>ثماني سنوات مرت على رحيل الشاعر الذي طوّع اللغة وأجلسها المقاهي. وقد نظمت «مؤسسة البابطين» ندوة دمشقية في المناسبة... طغى عليها البحث الأكاديمي الجاف والإنشاء المدرسيدمشق ــ خليل صويلح

أطلقت “مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعري” اسم نزار قباني على دورتها الجديدة، وعقدت ندوة في دمشق للاحتفال بإنجازات الشاعر الكبير بمشاركة نقّاد وشعراء عرب. ويأتي هذا الاحتفاء بعد ثماني سنوات على رحيل شاعر الحب والياسمين. وكانت المؤسسة الثقافية التي أطلقها رجل أعمال كويتي في عام 1998، وتُعنى بالشعر دون سواه من الأجناس الأدبية، كرّمت في دورات سابقة شاعرين سوريين هما عمر أبو ريشة وبدوي الجبل.
لكن الندوة التي استضافتها “مكتبة الأسد الوطنية”، لم تأت على مستوى التوقعات، ولم يعرف المشاركون فيها، وبينهم وفيق سلاطين (سوريا)، صلاح فضل وأحمد شهاوي (مصر)، محمد الغزي (تونس)، كيف يستعيدون تلك التجربة الغنية والمنوّعة التي تكاد لا يكون لها مثيل في تاريخ الأدب العربي المعاصر. بدت المداخلات والأبحاث كما لو أنها تدور حول شاعر آخر، ليس بمقام نزار قباني. وفرغت القاعة تدريجاً من الجمهور، فيما تواصلت البحوث بشكل عشوائي، ونادراً ما تمكّنت من تقديم الجديد أو المثير، أو من اقتراح مراجعات نقدية مطلوبة تفكك أسطورة نزار، وفي الوقت نفسه تنصف الشاعر الذي خلخل المعجم الشعري العربي، وأدخل عليه لغة الحياة بقصائده الجريئة ومفرداته اليومية الأليفة.
قدم معظم المشاركين أوراقاً مدرسية في مقاربة أعمال الشاعر وسيرته الذاتية. وذهب بعضهم إلى تأطير هذه التجربة الاستثنائية في حقول وخانات أكاديمية صرفة، تفتقر إلى حرارة الاكتشاف والابتكار النقدي. نزار قباني شاعر غرد خارج سربه، وأسس لقصيدة عربية إيقاعية مغايرة في المبنى والمعنى. ونزار الشاعر الذي هاجمه بعض الحداثيين ورأوا في تجربته تسطيحاً للغة والبنية الجمالية والمعاناة الانسانية... بل تسطيحاً للعشق نفسه، وتشييئاً للمرأة. نزار هذا الشاعر الإشكالي المثير للجدل، أما كان يستحق معالجة نقدية حية وذكية وغنية معرفياً؟ بدلاً من الاسترسال في تناول “مركزية الانتماء الوطني” و«النضال المسلح» و«الخطاب السياسي والقومي» و«نزار قباني في بحر الأغاني»...
ولا بد من التوقف عند بحوث قليلة سعت إلى التوغل في خصوصية التجربة وجماليات الشعر عند صاحب “الرسم بالكلمات”، والى مقاربة تلك “الوصفة السحرية” التي طالما ميزت نبرته المتمردة على تاريخية الشعر العربي.
من البحوث اللافتة ما قدمه نذير العظمة الذي تناول “صورة النهد في شعر نزار قباني” في إحصائية جمالية وفلسفية اعتمدت على أهمية الحواس، في تأكيد الشعرية لدى نزار. حاول الناقد والشاعر السوري أن يشرح كيف يستدرج الذائقة الى ضفاف خصبة بالمعاني والدلالات الشعرية، منتقلاً من الغريزي إلى الجمالي. وأشار إلى كيفية تغيير بعض النقاد عنوان ديوان قديم للشاعر من “طفولة نهد” إلى “طفولة نهر”. من جهته أوضح علاء الدين عبد المولى “جوانب الاختلاف في شعر نزار قباني”، بقوله: “لقد اقترب من حالات الجسد الأنثوي ببوصلة جديدة، من دون أن يكون شاعراً إباحياً”.
وفاجأ الدكتور فاخر صالح ميا الحضور بهجوم ساحق على صاحب “خمسون عاماً في مديح النساء”. فهو بدلاً من أن يتناول “اللون في شعر نزار قباني” بحسب عنوان مداخلته، ويحلل كيمياء اللون في نصوص الشاعر، إذا به يقول إنّ نزار قباني “حوّل الحب إلى عمل بيولوجي، ونزع منه المشاعر الإنسانية والتضحية، واستخدم خليطاً لونياً عجيباً للإيقاع بالمرأة عن طريق الكلام المعسول”. وأضاف: “لو أراد الناقد أن يختزل عيوب أشعار نزار قباني لقال إن شعره الغزلي هو عبارة عن قصيدة واحدة مكررة، اتخذها وسيلة لإرواء الملذات وترويج السلع!”.
طوال ثلاثة أيام (من الرابع الى السادس من الشهر الجاري)، لم يتطرق أي من المشاركين في الندوة إلى مكابدات هذا الشاعر في دخوله “منطقة النار”... بل أُدخل عنوة إلى مختبر البحث الأكاديمي الجاف والإنشاء المدرسي، ليخرج في نهاية المطاف، جثة شاحبة، على يد نقّاد شبه مجهولين. وغابت عن المناسبة أسماء مرموقة، لو كانت موجودة لأضفت بعض الجدية على مجريات الندوة، وخصوصاً مع وجود عشرات الكتب النقدية المهمة التي رصدت تطور شعرية صاحب “الشعر قنديل أخضر” الذي دافع عنه الراحل مارون عبود إثر صدور ديوانه الأول “قالت لي السمراء”. نشير الى مساهمات محيي الدين صبحي “الكون الشعري عند نزار قباني”، وجبرا إبراهيم جبرا “النار والجوهر”، وخريستو نجم “النرجسية في أدب نزار قباني”، وصلاح فضل “تحولات الشعرية العربية”، ومحمد لطفي اليوسفي “لحظة المكاشفة الشعرية”.
لكن هذا المنجز النقدي اللافت لم يجد صداه في مناخات الندوة، وغاب السجال عن مجرياتها وأعادت استهلاك أفكار طواها النسيان وتجاوزتها “الظاهرة النزارية”، منذ عقود، بخصوص إحالة أشعاره إلى خانات مدرسية محددة. وهو كان قد رفع الكلفة بينه وبين لغة “لسان العرب” و“محيط المحيط”، وأقنع اللغة بأن تجلس مع الناس في المقاهي والحدائق العامة، وتقرأ صحف اليوم حتى لا تنسى الكلام حسب ما يقول في “قصتي مع الشعر”.
وربما كانت الطامة الكبرى في الأمسيات الشعرية التي واكبت فاعليات الندوة. فقد احتشد على المنصة، خلال يومين متتاليين، تسعة شعراء تناوبوا على المنبر بقصائد قومية حماسية، كانت كفيلة، حسب تعليق أحد الحضور، بأن ينهض نزار من قبره محتجّاً على ما يسمع من معلّقات جاهلية جادت بها قريحة شعراء خرجوا على حين غرّة من المتحف (هارون هاشم رشيد، وعبد الرزاق عبد الواحد، وساجدة الموسوي، وطلعت الرفاعي، وخالد محيي الدين البرادعي)، وانهالوا على الشاعر الراحل يمعنون فيه قتلاً وتنكيلاً...
وتساءل بعضهم عن أسباب إقصاء أصوات شعرية عربية تليق بصاحب الاحتفالية، وتعيد الألق إلى فضائه. هذا الفضاء الذي تحوّل قارة شعرية كاملة يقطنها العشاق جيلاً وراء جيل.


«خبز وحشيش وقمر» ومتحف في دمشق؟
بعد ثمانية أعوام على رحيل نزار قباني، هل ينبغي أن نمرّ في شارعه ونستنشق رائحة الياسمين، ثم نستعيد قصائده في الحبّ، ونطوي الصفحة مثل أي مرثية عابرة؟ كان بعضهم قد اقترح بعد رحيل صاحب “الشعر قنديل أخضر”، تأسيس متحف خاص بالشاعر، يضمّ تراثه الشعري والحياتي. لكن الفكرة طويت في وقتها.
إن نظرة شاملة الى قاموس قباني، ستكشف عن موسيقى سرية. وقد يكون ما قاله صلاح ستيتية عقب نزار، معبّراً عن خصوصية هذا الشاعر: “كان موسيقار الكمان، من يلعب بكمانه على السطح”. فيما عدّه محمود درويش “أمير الشعراء العرب” العابر للمدارس والاتجاهات الشعرية “كأنه خط يخترق تاريخ الشعر العربي غير مكترث بأسئلة الحداثة... لكنه كان شاعراً أدخل الشعر في نسيج الحياة الاجتماعية وبسَّـطه. وسننتظر طويلاً شاعراً آخر يعيد الشعر الى المكانة العامة التي وضعه فيها نزار قباني. من “خبز وحشيش وقمر” الى “متى يعلنون وفاة العرب”، ظل نزار قباني سيفاً مسلولاً من العشق والهجاء، كي تكون الحياة أقلّ قسوة، وأقلّ شقاء. ‏