في كتابه الجديد، يخصص محمود درويش فصلاً كاملاً للحنين. وهذا الفصل يكاد يشكل إحدى نقاط الذروة في سياق درامي قائم على الزخم الشعري، وعلى توالد الصور والعبارات داخل لغة تأملية تغرف من فنّ الحكمة. يمضي الشاعر في لعبة «تفسير» الحنين، أو التنويع عليه، بمقاربات شعرية وفلسفية. فإذا به «مسامرة الغائب للغائب»، و«التفات البعيد الى البعيد»، و«عطش النبع الى حاملات الجرار»... نمشي خلف الشاعر الى مختبره اللغوي، ترافقنا «لعنة المجاز»: «الحروف أمامك، فخذها من حيادها والعب بها... الحروف قلقة، جائعة الى صورة، والصورة عطشى الى معنى... حكّ حرفاً بحرف تولد نجمة، قرّب حرفاً من حرف تسمع صوت المطر».وأنت تقرأ «في حضرة الغياب»، يأخذك الحنين الى قصائد قديمة لمحمود درويش، قصائد قديمة جداً، قد تخجل من تردادها أمام أصدقائك، وخصوصاً المحدثين بينهم. إذا كانت الكتابة في جانب منها حنيناً، فإن القراءة هي فنّ الحنين بامتياز. تفاعلنا مع الأثر الفني يقوم على مجموعة علاقات خفية، كيمياء سحرية، مثل حلوى مارسيل بروست الشهيرة، ما إن تلامس حواسك حتى تقحمك في لعبة التداعيات الشائكة. الأثر الأدبي مرتبط لدينا غالباً بلحظة محددة، تجمّد عندها الزمن السعيد. نقيم مع القصائد والأغنيات وغيرها علاقات سرية، تخصّنا وحدنا، وقد لا تكون الذائقة الفنية معيارها الوحيد.
هل يحق للشاعر أن يعيد كتابة تاريخه على هواه، حين يعيد إصدار أعماله القديمة مثلاً؟ هل يحق له أن يجرّدك من حق التعاطي مع بعض نتاجه، بحجة أنّه ينتمي الى مرحلة فكرية أو جمالية تجاوزها الزمن؟ عباس بيضون لا يطيق أن يذكّره أحد بأنّه صاحب “يا علي”، ودرويش سينتهرك إذا ذكرته بـ“سجّل أنا عربي”. أما ديوان أدونيس “قالت الأرض” فالأرجح أنك انفضضت عنه قبل أن يتنكّر له صاحبه...
هذه الذاتية مخالفة أحياناً للمنطق النقدي. لذلك قد تحبّ فيلماً معيناً لا يعجب أقرب الناس إليك. وقد تردّد قصيدة محمود درويش «سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا» بشغف، فينظر إليك من حولك باستنكار قد يصل الى حد الإشفاق، وقد يستنكر الشاعر نفسه الأمر، ويسألك من أين نبشت هذه القصيدة، ويشتبه في أنّك تسعى الى التقليل من أهمية منجزه الشعري. ولا بدّ من أن تجيبه حينذاك أن تلك القصيدة ملكك بقدر ما هي ملكه!

بيار...