حسين بن حمزةمنذ مجموعته “ورد أقل” (1986) بدا أن تجربة محمود درويش تشهد انعطافة قوية. لم يكن ذلك غريباً على شاعر دأب على تطوير ممارسته الشعرية. لكن تلك الانعطافة كانت، في الوقت عينه، إشارة واضحة إلى قرّائه كي يستعدوا لقراءة جديدة على النحو الذي يحب هو أن يُقرأ به. غالباً ما كان درويش يرسل إشارات كهذه في حواراته ومقالاته وأمسياته الشعرية. فالشاعر يهمه ألا يفقد جمهوره الواسع، فيما قصيدته تتخفّف من غنائيتها العالية ودراميتها المتوترة والتصاقها بثقافة النضال والمقاومة، وتعدّل نهائياً صورة الشاعر صوت القضية الفلسطينية.
بعض القراء لا يزالون يطمعون، بين حين وآخر، في أن يسمعوا من درويش شيئاً يرضي حنينهم إلى سابق عهدهم بشعره. وبعضهم، وهم النسبة العليا، تكيّفوا، راغبين، مع قصائده الجديدة التي لم تخفف من حمولتها الرمزية والنضالية فحسب، بل راحت هذه القصائد تميل، أكثر فأكثر، إلى القصر والكثافة والنثرية في مجموعاته اللاحقة: “لماذا تركت الحصان وحيداً” (1999) و“حالة حصار” (2002) و“لا تعتذر عما فعلت”(2004)، بحيث يمكن القول إن درويش، في مجموعاته الأخيرة، كان ينجز قصيدته بمنطق الضربة الأسلوبية الواحدة. وهو بذلك لم يكن يطوّر جملته فحسب، بل كان يقرّب شعره الجديد، وخصوصاً قصائده القصيرة، من أجواء وأساليب الشعر الذي كتبه ويكتبه شعراء السبعينيات والثمانينيات ومن تلاهم. إنه، بهذا المعنى، يبدو كمن يجدّد شبابه الشعري بالتحاقه بما هو دارج أكثر (وإن كان ذلك يحدث تحت سقف التفعيلة وبشروط درويش نفسها)، بل إن محمود باتت تجذبه وتستدرجه يوميات وركاكات وتفصيلات ما سمي النثر الشفوي والقصيدة اليومية، وهو مهّد لذلك باستثماراته الموفقة لعلاقات النثر الجافة والحيادية واللغة المسننة والملموسة فيه، مقابل الحضور الغنائي والدرامي والإيقاعي الشديد السيادة في شعره. نجح درويش في إقناع شرائح واسعة من قرائه القدامى بمواكبة جديده. ويمكن القول إن ذلك حدث على دفعات محسوبة، من الشاعر نفسه أولاً، ووفق تربية مبتكرة لهؤلاء وإعادة تأهيل لذوقهم. الأرجح أن درويش رغب من تلقائه في تطوير شعريته لكنه، من جهة أخرى، دُفع دفعاً لكي ينجز ذلك. وعلينا، في هذا السياق، ألا ننسى أن ارتباط شعر درويش بقضية فلسطين قاد النقد العربي الكسول والغبي إلى ربط شعره بالمقاومة، بحيث باتت تجربته لا تذكر في معظم الممارسات النقدية إلا مصحوبة بفلسطين والمقاومة والقضية. لقد شعر درويش، وعبّر عن هذا في مناسبات كثيرة، بأن المعاملة النقدية “الخاصة” التي يلقاها شعره قد أضرّت بتجربته وضيّقت عليها الخناق بطريقة باتت ملحقة بموضوع المقاومة التي لا يحضر شعره إلا بمناسبة الحديث عنها وبالعكس. تبقى إشارة أخيرة ومهمة هي أنّ تجاور جديد محمود درويش، وخاصة قصائده القصيرة، مع الشعر الذي تعاقبت أجيال وتجارب شابة على كتابته، يعطي هذا الشعر نوعاً من الشرعية. الشعر الجديد يملك هذه الشرعية بالطبع لكنه، بما كتبه ويكتبه محمود درويش الآن، يتلقّى جرعة إضافية وقوية.