strong>افتتح «مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي» دورته الـ 18 بمسرحيّة «النشيد» للثنائي رندا أسمر وغبريال يمّين، وهي من أهم ما أنتجته الخشبة اللبنانية خلال الموسم الماضي. وتكرّم الدورة الحالية المسرحي الرائد أنطوان ملتقى، رافعةً راية التضامن مع لبنان.بيار أبي صعب

الإنتاج المسرحي شحيح في بيروت منذ أشهر، ومع ذلك، فإن مسرحيّة «النشيد» التي مثّلت لبنان قبل أيام في افتتاح “مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي”، توحي بحالة من الزخم والازدهار. حمل الثنائي رندا أسمر وغبريال يمّين الى القاهرة عملاً ينتمي إلى المسرح الصرف، بكلّ مقوّماته وجمالياته وتقنياته. «النشيد» (عن نصّ للمجري جورجي شويدا) مسرحيّة عن الحبّ المهدّد والحريّة المستلبة، وانسحاق الفرد المحاصر في مصيدة الجماعة، الرازح تحت نير سلطة خفيّة، أقانيمها الآلة الاجتماعيّة (الجيران) والآلة الاقتصاديّة (المصنع) والآلة السياسيّة (النظام ومؤسساته). إنّها حكاية انهيار “قدري”، إنزلاق بطيء إلى الجحيم، في عالم يتصدّع أمامنا، بهدوء عبثي ومرارة ضاحكة. ليس هناك شيء بوسعه إيقاف تلك الآلة الجهنّمية. إنّها مسرحيّة سياسيّة بامتياز، انقلابيّة وتحريضيّة، من دون أيّ إحالة ايديولوجيّة، أو إشارة مباشرة إلى السياسة طبعاً. تقدّم مشاهد من حياة يوميّة، رتيبة. مشاهد مكرّرة حتّى الاختناق، تدور في حلقة مفرغة، بل في دوّامة تصاعديّة إلى الذروة المفجعة. هكذا تتراكم المواقف وتتضخّم. كل مرّة تتكرّر الحكاية مع معطيات جديدة تزيد عمق الإصابة، وتقرّبنا أكثر من الكارثة.
دائماً يستيقظ فوزي عند الفجر في صندوق الفحم. توقظه رندا، زوجته الحنون والخاضعة، للذهاب إلى المصنع. وتروي له، مع قهوة الصباح، ممارساته الغريبة والعنيفة، ليلة الأمس التي لا يذكر منها شيئاً. يسألها وتجيبه، ثم يسألها وتواصل الإجابة (هذه هي التقنية السرديّة المحوريّة للنصّ). يكتشف من زوجته أنّه عاد مرهقاً ومخموراً عند منتصف الليل، فانتزع أطفاله الثلاثة من نومهم، وأرغم العائلة مجتمعة على تأدية النشيد الوطني. وتزيد مع الوقت حدّة هذا الطقس الجنوني، فإذا به يضرب زوجته، ويغنّي في مدخل العمارة، ويضاعف إقلاق الجيران... بالضجّة طبعاً، ولكن أيضاً بالرائحة. تتحوّل الشقّة إلى مزبلة يجمع فيها النفايات والقشور ليبيعها مقابل فلوس قليلة ينفقها في الحانة التي يلجأ إليها بعد المصنع.
وطبعاً، ستنهال “مساعدات” الجيران والنقابة والتلفزيون والمؤسسة الاجتماعيّة لإخراج الرجل وزوجته من أزمتهما. في الحقيقة سيحكم المجتمع الخناق على كائنين مقهورين، في أسفل الهرم، يسعيان لحماية حياتهما الحميمة، حبّهما المهزوز، طمأنينتهما المسلوبة. ولا يبقى، والحالة هذه، أمام بطلنا سوى طريقة واحدة لـ “شكر” المجتمع على مساعدته. لم يعد يكفي تكسير أجهزة التلفزيون والأدوات الكهربائيّة في المتاجر المجاورة، تفريغاً وانتقاماً. لا بدّ لفوزي من القضاء على كلّ من طالته يده من المواطنين النبلاء الذين قدّموا له يد “العون”! ثم يعود الى زوجته. كالعادة تسأله ويجيبها، ويؤديان مرة جديدة - مرّة أخيرة؟ - النشيد الوطني!
غابرييل يمّين الذي عرّب النصّ عن الفرنسيّة، يفاجئنا برؤيته الإخراجيّة التي تلتقط برهافة حالات السخرية المرّة، ومواقف اليأس الممزوج بالضحك، وهما من أبرز مميزات الأدب المسرحي المجري المعاصر. ينسج مناخات سوداويّة تلعب على حالات الضيق والاختناق والقهر والانسحاق. وتساعده في ذلك سينوغرافيا علي شرّي، حيث الأعمدة المائلة تختزل عالماً يتصدّع. وتأتي شاشات الفيديو لتضيف بعداً “تغريبياً” على إيقاع السرد، يكثّف الزمن، ويولّد إحساساً نقدياً بالمسافة مع الحدث الذي يدور أمامنا.
ويشكّل التمثيل نقطة القوّة الأساسيّة لمسرحيّة “النشيد”. رندا أسمر آسرة في شخصيّة رندا الزوجة المذعورة التي تمضي ببسالة فطريّة وإصرار، في معركة التشبّث باستقرارها المهدّد وعائلتها وزوجها وأوهام السعادة. وتتلقّى العنف كما تواجه مراحل الانهيار، بشيء من القدريّة التي تضاعف استفزازيّة الخطاب الجمالي. أما غبريال يمّين، فيلعب على الخفّة والهمس، ويختار حضوراً انطوائياً لشخصيّة فوزي، الزوج المقهور والإنسان المحطّم، فلا يكاد يصلنا من عذاباته وضياعه إلا صدى مكتوم يزيد من عبثيّة الموقف ووطأته.
نحن هنا أمام عمل يذكّر بالسنوات الذهبيّة للمسرح اللبناني، في زمن يشهد صمت المعلّمين الكبار أو انسحابهم: أنطوان ملتقى الذي يكرّمه المهرجان القاهري هذه الأيام، ريمون جبارة، شكيب خوري، يعقوب الشدراوي... نادراً ما نلتقي اليوم في المسرح العربي، بمخرج قادر على “خدمة” نصّ مكتوب في زمن سابق على العرض، وتقديم رؤيته الخاصة من خلال ذلك النصّ، من دون الاعتداء عليه وتحويره وتشويهه. ولعلّ غبريال يمّين ربح رهانه في هذا السياق، ورفع التحدّي الأساسي المطروح على كلّ مخرج. تقصر المسافة هنا، بسحر المسرح، بين ثمانينيات بودابست الرماديّة (النصّ مكتوب عام ١٩٨٠)، الغارقة في مناخ توتاليتاري خانق قبل انهيار جدار برلين، وبين بيروت ٢٠٠٦ التي انهارت عليها كلّ الجدران، فضاعت فيها المعايير الأخلاقيّة والفكريّة في زحمة التحوّلات السياسيّة السريعة والسطحيّة، وخطابات التغيير والاستقلال الفارغة، بعيداً من المجتمع الصناعي، في منطقة عرضة لكلّ التمزقات والزلازل، في بلد مهدد يعيش على حافة بركان، تبدو رحلة فوزي ورندا إلى الهاوية مخيفة وبليغة، وقادرة على مخاطبة اللحظة العربيّة، وإعادة الاعتبار إلى اتجاه مهمّ من اتجاهات المسرح اللبناني.


لولا نخوة عمرو دياب...

لم يكن لمسرحية “النشيد” أن تواجه جمهورها القاهري... لولا نخوة المطرب عمرو دياب. ليس في الأمر مزحة، هذا ما أعلنه وزير الثقافة المصري فاروق حسني في حفلة افتتاح “مهرجان المسرح التجريبي”. “دعماً للشعب اللبناني والمقاومة اللبنانية”، تولّى “ملك الجيل” تغطية تكاليف سفر رندا أسمر وغبريال يمّين... وسائر أعضاء “الوفد اللبناني”. وبين أبرز القادمين من بيروت المسرحي الرائد أنطوان ملتقى الذي يكرمه المهرجان الى جانب العراقي صلاح القصب. ولا نعرف من تولّى تكاليف “الوفد” العراقي، لكننا نكتفي بالاشارة الى مسرحية “نساء في الحرب” (كاظم نصار) الآتية من بغداد، والى مسرحية جواد الأسدي «حمام بغدادي» وإلى عرض قدمه اللبناني وليد عوني في الهواء الطلق بعنوان “فيروز هل ذرفت عيناك دمعة؟”، وإلى مشاركتين مصريتين في “التجريبي”: محمد أبو السعود (أنتيغونا في رام الله وبيروت)، وانتصار عبد الفتاح (الخروج الى النهار).