strong>مليكة مستظرف رحلت حقاً هذه المرة. غادرت «الجناح 31»، قبل أن تنهي روايتها، فلم ينتبه أحد. انسحبت من حياة ملؤها الألم والصراخ، بعد تجربة قصيرة وفريدة تضعها ضمن سلالة الكتّاب الملعونين في الأدب المغاربي الحديث.
الرباط ــ ياسين عدنان

مرة أخرى ماتت مليكة مستظرف (1969). لكن يبدو أنها اليوم تموت لآخر مرة. كأن حياتها الصعبة المثخنة بالجراح لم تكن أكثر من تدريب على الموت. امرأة احتملت ما لا طاقة لأحد به: “الأطباء حكموا عليَّ بالموت عام 1986، وبقيت حية. وعام 1990 حكموا عليّ بالموت أيضاً ولم أمت. وعام 1992 أقسموا أنني لن أعيش بعدما دخلت في غيبوبة تامة. وأنا نفسي في فترة من الفترات أقدمتُ على الانتحار، لكنَّ الموت لفظني”. قدرتُها على تحمل الألم كانت استثنائية، وبراعتها في سرد ألمها وتعرية جراحها وجراح مجتمعها بلغة صادمة مستفزة كانت تذكّرنا جميعاً بمحمد شكري. شكري جديد بتاء التأنيث لكن للأسف من دون اهتمام إعلامي ولا ترجمات عالمية.
الكاتبة المغربية التي غادرت قبل أيام، هكذا في صمت، على سرير مرضها الطويل في الدار البيضاء، لم تكن تكره شيئاً قدر كرهها للصمت. منذ روايتها الأولى “جراح الروح والجسد” أطلقت صرختها الأولى: “لن أبتلع لساني وأصمت، بل سأتقيأ على وجوهكم كل ما ظل محبوساً طوال هذه السنين. سأنشر غسيلي الوسخ على الملأ ليراه الجميع. لم يعد يهمني أحد”.
وهكذا كتبت مليكة قصة الطفلة التي تعرضت للاغتصاب فوق سطح العمارة في سن الرابعة. ثم تكررت الحكاية مع البقال الطيب، ومع القريب القروي: أحسست يداً مرتعشة تتحسس صدري ونهدي. أي نهد لطفلة لم تتجاوز السادسة؟ لم أعترض. كنت أعرف أنه لا جدوى من المقاومة. استسلمتُ وأنا ألعن كل شيء في سري”.
كبرت الطفلة وصارت كاتبة لا تتردد في لعن الجميع جهراً. لكن يبدو أن الجراح قررت هي الأخرى أن تكبر معها. جسدها الهش أبى إلا أن يمعن في خيانتها، فأصيبت بالقصور الكلوي في سن الـ14.
مذاك تواظب على جلسات غسيل الدم ثلاث مرات في الأسبوع: “عمري الحقيقي لا أحسبه بالسنوات، بل باللحظات الجميلة التي عشتها. وعندما يسألونني اليوم كم عمرك، أجيبهم: أنا في الرابعة عشرة. أحس بأن عمري توقف هناك وكل هذه السنوات مجرد أشواط إضافية أنعم الله بها عليّ في انتظار الورقة الحمراء”.
كانت مليكة تحلم بكتابة رواية ثانية قبل أن تموت. ولأنها كتبت أغلب فصول روايتها الأخرى خلال جلسات غسيل الدم، قررت كتابة عمل ثان تحت عنوان “الجناح 31”، عن معاناتها ومعاناة الآخرين في هذا الجناح لمرضى القصور الكلوي. وطبعاً، لم تتمكن مليكة من إنهاء الرواية بعد اشتداد المرض.
لم تعد الرواية ممكنة يا مليكة؟ فما العمل الآن؟ صارت القصة القصيرة خيارها الأخير. وتحولت الرواية الموعودة إلى نص قصصي مؤثر تحت عنوان “مأدبة الدم” ضمته إلى تسع قصص أخرى ونشرته في مجموعة قصصية صاعقة جاء عنوانها “ترانت سيس”. ويحيل رقم 36 بالفرنسية لدى المغاربة إلى الجنون، فهو رقم جناح الأمراض النفسية والعاطفية في أحد أكبر مستشفيات الدار البيضاء. وطبعاً جاءت شخوص مليكة مستظرف في هذه المجموعة مقهورة متوترة مشرّعة على الجنون.
طفلة قصة “ترانت سيس” تعيش مع والدها المهتز نفسياً الذي يستقبل عشيقاته في البيت مساء كل سبت، فيما البنت تنزوي في غرفتها وترسم نساء بلا ملامح وتتساءل: كيف هو شكل أمي؟. فتى قصة “مجرد اختلاف” يرفضه الجميع ويُعامل بقسوة. أما الطبيب فقد نصحه بأن يتقبل جسده كما هو. لكنه ظل عاجزاً عن إقناع الآخرين باختلافه. وفي المنزل، يجد دائماً عقوبة أبيه المملة في انتظاره: “أكتبْ ألف مرة: أنا رجل، أنا رجل...”. ثم مريضة قصة “الهذيان” التي تتعرض لمحاولة اغتصاب على سرير مرضها في المستشفى.
كل شخوص قصص مليكة مستظرف من هذا النوع. شخصيات مغلوبة على أمرها. رجال معطوبون ونساء بلا رجال يكابدن جحيماً يومياً اسمه الدار البيضاء: جحيم المدينة. جحيم الرجال. جحيم التقاليد. وليل الدار البيضاء الصعب والضاري يكاد يفتح الجميع على الجنون.
بعد “ترانت سيس”، كتبت مليكة مستظرف المزيد من القصص. بين جلسة علاجية وأخرى كانت تكتب قصة جديدة. آخر قصة كتبتها جاءت تحت عنوان “موت”، أهدتها إلى كل هذا الدم الطاهر المسفوح في فلسطين ولبنان، ونشرتها في آب الماضي على موقع “دروب” الإلكتروني. فهل كانت مليكة وهي تنفطر لكل هذا الموت الذي هجم دفعة واحدة على لبنان تتنبأ بموتها الشخصي؟
عندما رفض القاص المغربي أحمد بوزفور جائزة المغرب للكتاب قبل سنتين، قال في بيان الرفض إنه يخجل من مليكة مستظرف التي تموت تحت أنظارنا جميعاً، ونحن ساكتون ننتظر أن تموت نهائياً لنرثيها. الآن ماتت مليكة. وها نحن بكل جبن نتفانى في رثائها. رحلت صاحبة “جراح الروح والجسد” و“ترانت سيس” من دون أن تقدم لها المؤسسات الثقافية المغربية أي مساعدة. لا شك في أننا نشعر اليوم جميعاً بالخجل، لكن المؤكد أن الخجل وحده لا يكفي.