فريد بو فرنسيس
الحديقة العامة في طرابلس او « المنشية» جزء مهم من حياة الطرابلسيين وذاكرتهم، فهي الرئة والمتنفس بالنسبة إليهم، وهي الشاهد على تطوّرات وأحداث رافقت نشوء لبنان، والمتغيّرات السياسية الداخليّة عبر عدة انتفاضات وتحركات شعبية ضد حكومات الانتداب، وعهود الاستقلال الاولى. يزيد عمر “المنشية” عن مئة عام وهي كانت مقصد المئات من ابناء الفيحاء والمناطق المجاورة له، يأتونها للراحة بعد التبضع وشراء حاجاتهم، قبل ان يغادروا المدينة متوجهين الى بلداتهم وقراهم. وكانت “المنشية” واحة راحة حقيقية بمقاعدها الخشبية- التي استبدلت لمقاعد من الـ “فيبر غلاس”- وأزهار متنوّعة تنتشر فيها إلى جانب ومساحات شاسعة تظللها أشجار منها الباسقة كالنخيل، ومنها الزعرور والصنوبر و»السفينكس» المتمدد الوارف الظلال. الطرابلسيون من رواد “المنشية” يحنّون الى الحارس الاخرس بشرواله، وعقاله وعصاه الغليظة يحركها يميناً ويساراً ويحاول إبعاد المتطفلين، والاطفال عن الحشائش لمنعهم من قطف الازهار والورود. وكثيرون من أبناء عاصمة الشمال يحتفظون بصورة تذكارية لهم من عدسة احد المصورين الارمن، مع اطفالهم في نواحي «المنشية». كثيرة الصور التي التقطت عند البرك التي تتوسط الحديقة. وكانت اسماك الزينة “تمخر” المياه جيئة وذهابا تلاحق حبات «القضامة» يرميها الاطفال بعيدا عن اعين الاخرس الحاضر في كل جنبات الحديقة.
أصيبت “المنشية” باحباط للمرة الأولى عام 1968 عندما أُزيلت السرايا التوأم العثماني لها في ساحة التل. اما الاحباط الثاني فكان يوم هبت عاصفة كبيرة، واقتلعت شجرة السفينكس المعروفة بـ « شجرة التنابل» في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، وهي من اكبر الشجرات المعمرة في المنشية. وقد اقترن اسم الشجرة بالتنابل لأن كثيرين كانوا يتخذون من ظلالها مرقدا لهم طوال نهارات الصيف الحارة الطويلة. ونظرا للموقع العاطفي لهذه الشجرة في قلوب الطرابلسيين، فقد عمد مزارعون يهتمون بالمنشية إلى قطع أغصانها العالية بعد سقوطها، وأعادوا زرعها في المكان عينه الذي كانت فيه سابقا، فعاشت وهي تنمو باطّراد لتعود موئلا للتنابل المتكاثرين تحت وطأة الأزمات المتعاقبة على لبنان.
ومع التغيّرات الحديثة التي طرأت على المنشيّة، وتبديل بأصناف أخرى، غابت الاشجار الوارفة شيئا فشيئا لتحل محلها انواع اخرى لا فيء لها. ابو احمد ( 70 عاما) وهو من الرواد الدائمين لهذه المنشية، يقول أن الحياة كانت تدب في الحديقة التي تغيرت ملامحها. فالبلدية اجرت الكثير من التعديلات داخل المنشية، وكان للعوامل الطبيعية دور كبير في هذا الإطار، ويذكر أبو أحمد بألم يوم هبت عاصفة شديدة قبل سنوات فكسرت شجرة كبيرة معروفة بـ “شجرة التنابل”، لتطوى معها صفحة مهمة من تاريخ هذه المنشية والتي يذكرها الكثيرون ممن تعودوا ارتياد هذه المنشية. ويضيف أبو أحمد وهو يسند راسه على يده : “مضى العمر بسرعة وكأننا في حلم، وقد صحونا منه الان. كانت لنا ذكريات جميلة عندما كنا شبابا، وعندما آتي اليوم الى المنشية لا شيء من كل ما أراه يذكرني بايام الصبا، لان المعالم كلها قد تغيرت داخل الحديقة، لجهة الاشجار او الارصفة، او المقاعد، حتى الرواد الذين ياتون اليها قد تغيروا».