strong>عودة إلى جنازة صاحب «أولاد حــارتنــا»، بين سـلطة خائــفـة ومــرتبـكة اختارت عزله عن ناسه، وجــمــاعة إسلامية سـاعية إلى براءة ذمـة مـزيّـفـة، تريد إقناعنا بأن محفوظ أعلن توبته...وائل عبد الفتاح

نجيب محفوظ فى الجنة أم في النار؟ هل السؤال مهم؟ صحيفة مصريّة معارضة وضعته على صفحتها الأولى. آخرون انشغلوا بسؤال مشابه: هل كان نجيب محفوظ ملحداً؟ ولم تكن النكتة غائبة. تخيّل احدهم محفوظ وهو يوزع نسخاً من “اولاد حارتنا” على ابطالها الحقيقيين في السموات، ويبتسم لكل منهم قائلاً: “اقرأ ما كتبته عنك”!
خيّم التفكير في الموت، او الخوف منه، على جنازة نجيب محفوظ. وقد تكون مصادفة غريبة ان تتزامن جنازته مع جنازة لاعب كرة قدم مات في الملعب. نجيب محفوظ، الذي حلم بأن يكون نجم كرة قدم، خرجت جنازته رسمية باردة، بينما اللاعب محمد عبد الوهاب لامست موته مشاعر ساخنة. خرجت يومها الجماهير حزينة متحسرة على اختفائه. لكن جنازة محفوظ لخصت نوعاً من البؤس يحتاج الى تأمل. دولة تخاف من زرع قنابل في الجثة. فتشت الشرطة السرية التابوت وبعثرت الجسد المستسلم، باحثةً عن قنابل كامنة تحت الكفن. مشهد مؤلم. مستفز. لكن لا يمكن الكلام. فنجيب محفوظ الآن في قبضة الدولة، والرئيس والجنرالات سيمشون في جنازته.
كشفت جنازة محفوظ أن الدولة خائفة ومرتبكة. لم يفكر أحد من الدولة التي تعاني من ضغط الاسلاميين، بأن التفاف الناس حول نجيب محفوظ، الاديب والمثقف، كان يمكن أن يكون رسالة ضد التطرف، تخفف من احتكار الرموز الدينية التي تريد أن تحكم كل حياتنا. وأن الاحتفال الشعبي بالأديب، كان يمكن أن يحررنا بعض الشيء من سلطة الشيخ وسلطانه. كان يمكن أن تكون جنازة نجيب محفوظ “عودة الروح” الى ثقافة مدنية هاربة من تأميم المشايخ للمجتمع. وبالنسبة الى شعب يحتفي بالموت، فالاحتفال برحلة نجيب محفوظ الاخيرة في شوارع القاهرة هو اعلان محبة لأبطال من لحم ودم.
لماذا لم تخرج جنازة نجيب محفوظ من المقهى؟ أو من مقر ندوته الاسبوعية؟ ولماذا اقتصرت الجنازة في “الحسين” على الطقوس الدينية؟ أليست في “الحسين” حياة وناس وعالم كان محفوظ مغرماً بها، وكان يحب أن يكون مشواره الاخير بينها كما كان مشواره الاول؟ لماذا اقتصر الاحتفال بنجيب محفوظ على المارشات العسكرية والقرآن؟ لماذا ودعناه كما نودع شخصاً عادياً لا ميزة له سوى الحصول على قلادة النيل من رئيس الجمهورية؟ لماذا لم تستطع الدولة والمجتمع تجديد الحياة بقوة الموت؟
أرادت كل القوى المسيطرة اعلان جبروتها بمصالحة مع محفوظ. الجنرالات الذين يكرههم. المشايخ الذين لعبوا فى دماغ مراهق جاهل، ودفعوه الى غرس سكين في رقبة الرجل الذى يسير بجوار الحائط. لكن، الحمد لله، اعتذرت الجماعة الاسلامية عن محاولة اغتيال نجيب محفوظ. نعته فى بيان رسمي، جاء فيه ان محاولة اغتياله صبيانية، وأنها “لم تكن تمثل خطاً عاماً في الجماعة. فالخلافات الفكرية إنما هي محل الجدل والحوار لا القتل والاغتيال، وما وقع للأديب الكبير إنما كان عملاً فردياً قام به بعض المنتمين إلى الجماعة...”.
وربما كان يمكن أن نفهم أن الجماعة تعتذر عن جريمة بعد 12 سنة على محاولة ارتكابها، وأنها في اطار “توبتها” عن العنف، تعلن تبرؤها من كل اخطاء الماضي لتبدأ صفحة جديدة. لكن هذا في الحقيقة لم يحدث. فما زال يحكم الجماعة تصور أنّها الناطقة باسم “الحقيقة المطلقة” وما زالت تتحدث بنرجسية عن أنها جماعة المؤمنين الصالحين بينما الباقون فئات قابلة للهداية او خارجة عن الصف.
والحقيقة أن أي قراءة تدقق فى البيان ستكتشف أن اعتذار الجماعة مشروط. أولاً بتوبة نجيب محفوظ عن “اولاد حارتنا”. وثانياً بدفاع نجيب محفوظ عن حق الجماعة في الوجود. جاء في البيان: “الراحل نجيب محفوظ رحمه الله كتب في بداية حياته “أولاد حارتنا” التي كانت تمثل إهانة للأديان كلها، وليس للإسلام فحسب. ما يشفع للكاتب الكبير أنه رفض نشرها، وطبعها إلا إذا وافق الأزهر الشريف... وهذه نعتبرها رجوعاً منه عن هذه القصة، ونفضاً ليده منها، وتوبة إلى الله من وزرها...”. وتضيف الجماعة: “نقدر آراءه التي كانت تدعو منذ فترات طويلة إلى فتح حوار مع الحركة الاسلامية، وكان يؤمن بحق الحركة في الوجود والتعبير عن آرائها، وظل متمسكاً بهذا الرأي حتى بعد الاعتداء عليه، وهو الأمر الذي نقدره له ونحييه عليه”. يبدو الامر كما لو أن محفوظ اعلن توبته بعد رحيله. والجماعة التي تتحدث عن حرية الفكر والإبداع، تعتقد أن نشر الرواية المختلف عليها هو “نقيصة”.
تريد الجماعة اعلان اندماجها في “الدولة” عن طريق نجيب محفوظ الذي ارادت الدولة أن تعتبره ابنها، وهو ابن دولة اخرى عاش غريباً في ظل حكم العسكر. غربة على المستوى الثقافي والمزاج الاجتماعي. لكنه وبنفسية موظف ملتزم، احترم الجميع ولم يخرج عن الطاعة. احتفظ بتمرده اساساً في الكتابة. ولم يقتصر نقده على الدولة وجنرالاتها، بل على كل العناصر الفاعلة في قيام المجتمع بتكوين صورة عن نفسه. لم يكن سياسياً. لكن ثقافته لم تنقصها السياسة. ابن ليبرالية وابن مدينة. وهذا اتاح له قبول تعدد لم يتعوده النازحون بثقافة ريفية، ولا الذين تربوا على ثقافة العسكر. هذه الثقافة المتعددة والمنفتحة والمتحررة وراء “اولاد حارتنا” التي تريد الجماعة الايحاء بأن نجيب محفوظ “اعتذر” عنها.
انه بمثابة انتصار لم تحققه الجماعة بالعنف، وتريده اليوم من دون دماء. تريد أن تقول لنا إن فكرتها هي الصحيحة، وإن الخارجين عن افكارها يعتذرون ويعودون الى القطيع. فاشية ترتدي اليوم قفازاً من حرير بعدما كانت في عام 1994 تحمل سكيناً صدئة تطعن بها من الخلف.
الجماعة ليست وحدها. الاخوان ساروا في جنازة محفوظ وصلّوا عليه. والقرضاوي نجمهم اللامع اسبغ عليه اوصافاً مثل القدوة والنموذج للشباب. ونصّبه رمزاً للثورة المتجددة. هذه إذاً مصالحة لا ينقصها سوى ايمن الظواهري وأسامة بن لادن. مصالحة بعد الموت.