خليل صويلح
الذين يعرفون عزمي بشارة من خلال مواقفه الجريئة، كنائب عربي في الكنيست، قد يغيب عنهم أن هذا الخطيب الآسر والمناضل الشرس، هو في النهاية رجل أدب وفلسفة... وأن مبادراته السياسية التي يراها بعضهم بطولة، وبعضهم الآخر تهوراً (والعدو “خيانةً” طبعاً)، ليست إلا جانباً في شخصية المثقف المثالي الذي ما زال يحلم بتجاوز الحدود القسرية التي تحاصر عرب الـ 48. بهذا المعنى ينحدر عزمي بشارة من “تجربة” خاصة سبقه إليها الراحلان توفيق زياد وإميل حبيبي، فكلاهما كان أديباً ومناضلاً و... نائباً عربياً في الكنيست.
لا تختلف صورة وجهاً لوجه، عن تلك الصورة التي نشاهدها على التلفزيون. لكن
التعرّف إلى عزمي بشارة (1956) عن كثب، يضفي على صورته السائدة أبعاداً متعددة. في تلك الأمسية الدمشقية التي جمعته بمثقفين سوريين مستقلّين، كنّا نحاول اكتشاف ظلال أخرى خفيّة في شخصية صاحب “طروحات عن النهضة المعاقة” (2003)، مستحضرين صورة ذلك الشاب بشعره الكثيف وشاربيه الكثّين، العائد للتو، من جامعة “هومبولد” في برلين الشرقية (1985)، إثر حصوله على الدكتوراه في الفلسفة، لينخرط على الفور في المعمعة السياسية.
أن تكون فلسطينياً من “عرب 48” يعني أن تواجه هوية مزدوجة في إسرائيل. انتسب عزمي الى الحزب الشيوعي الإسرائيلي “راكاح”، كما فعل قبله صاحب “المتشائل”. ولم يتخلّ عن عمله الأكاديمي في جامعة “بيرزيت” التي شهدت أولى التظاهرات ضد الاحتلال. أسّس “المعهد الفلسطيني للدراسات” الذي أصدر عشرات الأبحاث المعمّقة في معنى المواطنة والهوية القومية، وتناقضات الديموقراطية الإسرائيلية. وجاء كتابه “الخطاب الإسرائيلي المبتور” ليضع النقاط على الحروف، في ما يتعلق بـ“الأقلية الفلسطينية في إسرائيل” وتأكيد حقوقها المهدورة، وصولاً إلى رؤية جديدة لمستقبل الأقليات على صعيد المساواة، إلى مساهمات جدية في “نقد المجتمع المدني”. وبقبة الحكاية معروفة...
يعمل عزمي بشارة على مشروع رواية بعنوان “صعود وأفول العم صالح”، محاولاً استعادة وقائع حياة جيل الأربعينيات الفلسطيني، من أبناء الطبقة الوسطى. “هذا الجيل الذي درس في بيروت، وأنشأ ثقافة التنوير، والذي يواجه اليوم الانقراض مع قيام ثقافة مغايرة”.
وكان عزمي بشارة فاجأ الجميع قبل سنتين بإصدار روايته الأولى “الحاجز” (2004) مرفقة بعنوان فرعي هو “شظايا رواية”. ثم أتبعها برواية ثانية بعنوان “حب في منطقة الظل” (2005) وعنوان فرعي “رواية شظايا مكان”. ولعلّ هذا التشظي في السرد والمكان يؤكد على نأيه عن الحكاية التقليدية المتصاعدة والاكتفاء بنتف حكايات لا تكتمل.
في “الحاجز” يرصد حالات الإذلال اليومي للفلسطينيين وتوازن الرعب بين القامع والمقموع بمشهدية لا تحتاج إلى حبكات متينة. فالمنظر يعلن عن نفسه تلقائياً، باختلاط عشرات الحقائب وجوازات السفر والأسماء وتواريخ الميلاد وانتظار الرهائن في “اللامكان”. أما في “حب في منطقة الظل” فيضيء الكاتب على “التشات” من خلال قصة حب بين فلسطيني من بلاد الحواجز وفلسطينية من بلاد الشتات. وتتميز الرواية بمناخات السخرية السوداء، إذ يتمازج الواقعي بالمتخيّل، والتهكّم بالمأساة، والجد والهزل... الكتابة كانت المخرج المشرّف الذي اختاره إميل حبيبي ليصفّي نهائياً حسابه مع السياسة. فما عساها تكون علاقة عزمي بشارة بالأدب في المستقبل؟