برلين ــ ياسين عدنان
هل صارت الماركات التجارية أقوى من الحكومات؟ لماذا عندما يلجأ الأقوياء إلى السلاح نُسمِّي ذلك دفاعاً عن النفس، فيما نعتبر لجوء الضعفاء إلى العنف إرهاباً؟ لماذا لم يتحقّق السلام في الشرق الأوسط؟ ماذا لو أراد كل مواطن صيني أن يملك سيارة؟
ليست هذه الأسئلة من فقرات برنامج مسابقات تلفزيوني، بل عيّنة من خمسين ألف سؤال انخرطت منظمة “دروبينغ نولدج” في جمعها في أيلول من العام الماضي. فيما اختارت هذا العام مئة سؤال طرحتها الأسبوع الفائت على 120 مثقفاً وناشطاً من مختلف جهات الأرضأجاب الضيوف طوال يوم عن المئة سؤال ضمن مؤتمر “طاولة الأصوات الحرة” الذي أقامته المنظمة في “ساحة بابل” (بابل بلاتز) في برلين. ولم يكن اختيار الساحة مسرحاً لهذا اللقاء عبثاً. فهي تقع قبالة جامعة “هامبولدت” التي درَّس فيها يوماً هيغل وإينشتاين. كما أنه في هذه الساحة أيضاً، “ارتكب” هتلر “محرقة الكتب” الشهيرة أحد أيام أيّار عام 1933. هكذا، جاءت طاولة الأصوات الحرة لتثأر من المحرقة النازية، وتُمكِّن برلين ومعها “دروبينغ نولدج” من تأسيس مكتبة جديدة من خلال 112 كاميرا رقمية وميكروفون سجلت إجابات كل الفعاليات المدعوة. هكذا صار اليوم في حوزة المنظمين 672 ساعة مسجلة سيضعونها رهن إشارة مواطني العالم على موقعهم على الانترنتلم يكن المؤتمر الذي عُقد في التاسع من هذا الشهر عادياً. ومن احتشد من المبدعين والمفكرين والناشطين فاجأهم مزاج الساحة وروحها البابلية: الفيلسوف الفرنسي الكبير إدغار موران قرب نجمة سيرك موسكو المُهرِّجة الروسية أنتوشكا. الكاتبة الأميركية الشهيرة سوزان جورج قرب الشابة الأوغندية شينا كتتسكي (مواليد 1976) التي حملت السلاح ضمن جيش المقاومة الوطنية في أوغندا في سنّ الثامنة وقتَلَت وجُرِحت وهي دون العاشرة. الشاعرة البوسنية المسلمة نادية هليلبيغوفيتش إلى جانب رجل الدين البوذي بالدن كياتسو من التيبت. أما الحضور العربي فقد تشكّل من المفكر الجزائري محمد أركون، التشكيلي الفلسطيني كمال بلاطة، الأديبين اللبنانيين عباس بيضون ورشيد الضعيف، والإعلامية والحقوقية التونسية سهام بنسدرين، والناشطة العراقية جوان عزيز. الإحساس الذي ينتاب المشارك في تلك اللحظة هو أنه يتجوّل في حديقة ألسُنٍ بابلية من زمن الأساطير.
في طريق العودة من مطار برلين إلى مطار لندن، “انخرطت” في حوار مع رفيق رحلتي سيمو ريتالاك، مستشار رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في شؤون البيئة والمناخ. كان المستشار الشاب قد شارك في الطاولة بصفته ناشطاً في مجال البيئة. قلت له إنني وجدت التظاهرة بالغة الروعة: نخبة من المناضلين من أجل السلام يلتقون في مسيرة مناهضة للحرب على العراق في الولايات المتحدة عام 2003 حيث يقررون تنظيم هذا المؤتمر الفريد من نوعه لخلق رأي عام عالمي لا يخضع لسطوة وسائل الإعلام. أجابني سيمو ريتالاك بأنه مع ذلك يجد موازنة خمسة ملايين يورو التي صرفتها “دروبينغ نولدج” على التظاهرة ضخمة جداً. "لو قُدِّر لي مبلغ مماثل لصرفته على مشاريع بيئية أكثر أهمية” أضاف.
شرحتُ له أنني أنا الآخر قد أقترح لهذا المبلغ أوجُهَ صرف أخرى، مثل رواتب الموظفين الفلسطينيين وإعمار لبنان. بالمناسبة هل لديكم تصوّر دقيق عن الوضع البيئي للبنان بعد العدوان الأخير؟ لم يهدّئ جواب ريتالاك من روع سؤالي. لكنني لم أهتمّ لذلك كثيراً. فطاولة الأصوات الحرة علّمتنا أن سؤالا جدّياً واحداً قد يكون أجدى من عشرات الأجوبة الملفّقة.