Strong>في باكورته «فلافل»، يأتي ميشال كمّون السينما الروائية محمّلاً بالأفكار والمراجع والنوايا الطيبة. هنا قراءة للفيلم الذي يعلن ولادة مخرج، وقد افتتح عرضُه العالمي الأول الدورة الرابعة من «أيام بيروت السينمائية».
بيار أبي صعب

شاب ملتحٍ يرسل شعره الكثّ الطويل في الريح، مطلقاً العنان لدراجة ناريّة تمخر عباب الليل. مهلاً، هذه اللقطة ألم نشاهدها من قبل؟ هذا البانوراميك يذكّرنا بمشاهد أليفة يخيّل إلينا أننا نعرفها جيداً، لكننا لا نذكر بالضبط من أين، ومنذ متى، وحين نسمع صوت ياسمين حمدان طالعاً من مقطوعة شهيرة لتوفيق فرّوخ فيها تنويع على أغنية “ليلي مارلين”... نقترب أكثر من الطّيف الذي نطارده. لقد رسم ميشال كمّون مناخات فيلمه منذ اللقطة الأولى في ليل بيروت. إنها مغامرة أخرى، بطلها شاب غير محدد الملامح، يبحث عن ذاته في هذه المدينة العجيبة. وكالعادة صوت ياسمين حمدان طوطم هذا الجيل الضائع ـ جيل ما بعد الحرب الأهليّة.
في افتتاح “أيام بيروت السينمائيّة”، مساء السبت الماضي، بدا ميشال كمّون (1969) متأثراً لدى تقديم باكورته في مجال السينما الروائية الطويلة. من الواضح أن وراء التجربة قصّة تروى، بل أكثر من قصة: تجربة الإنتاج الذي خاضه المخرج الشاب منفرداً ليأتي شريطه “صناعة لبنانية مئة في المئة»... إنجاز الفيلم الذي استغرق ثلاث سنوات تخللتها عقبات لا تحصى، حتى شكّ بعضهم في أن الفيلم سيرى النور... العناصر الأوتوبيوغرافية التي لا بدّ أن كمّون استقى منها “فلافل” المهدى إلى أخيه الأصغر روي (1979 - 1997).
بطل ميشال كمّون كان يمكن أن نلتقيه في أحد أفلام جان لوك غودار، لو أنّ شخصيته استكملت بعدها الوجودي، أو أحد أفلام فرنسوا تروفو لو أنّه يملك شاعرية أنطوان دوانيل ومشاكسته، وربّما أيضاً في أحد أفلام كريستوف كيسلوفسكي لو أنّ السيناريو ذهب أبعد في جعل البراءة المفقودة تختصر لحظة من حياة مجتمع مأزوم على شفير الانفجار... وفي تيهه السينمائي الذي يكاد يأتي صدىً لتيه بطله الوجودي، يعرّج كمّون على الكوميديا الإيطالية، ويرنو من بعيد إلى أفلام الغانغستر الأميركية، ويأتي سكسوفون توفيق فرّوخ (واضع موسيقى الفيلم) وترومبيت ابراهيم معلوف ليدفعا في هذا الاتجاه.
يعيش “تو”، تصغيراً لتوفيق (إيلي متري) حياة عادية: أب لا نراه وأم تقلق وتنتظر وتكبر (هيام أبو شديد)، وأخ أصغر يحتضنه ويشتري له الهدايا. رب العمل في «محل الانترنت» يتحوّل مثاله الأعلى، مكان الأب الغائب. وهناك الأصحاب والبنات وحفلات الـ party. وصولاً الى تلك الحفلة الراقصة عند صديقه نينو التي ستغيّر حياته. بطل كمّون، مثل أبناء جيله في لبنان ما بعد الحرب، شاب يريد أن يكبر. يبحث عن مكان وأسلوب ودور ومعنى. أول الرجولة، وأول المواطنة، وأول الرغبة، وأوّل الحب. لكن المدينة لا تتسع بسهولة لمثل هذه المشاريع، وليس في بناها التحتية وتركيبتها الاجتماعية والثقافية، ومنطقها وعلاقاتها وسلوكها الجماعي، وأزماتها المستشرية وآثار الحرب المتجذرة، ما يسهّل تفتّح الذات ويدفعها الى نضجها واكتمالها.
يحاول كمّون تصوير الهامش من وجهة نظر تو الهائم على وجهه في ليل المدينة، مطارداً الرجل الصلف الذي ضربه، كي يثأر لكرامته. الهامش هو محل العصير والفلافل، حيث تتخذ تهويمات فيلسوف الفلافل (فادي أبي سمرا) عن “الحبّة الهاربة” بعداً تنبؤياً. ومحل الدواليب الذي يلجأ إليه تو وقد نفدت قواه، ويبدو صاحبه جورج (عمار شلق) فيلسوفاً آخر من فلاسفة الإحباط والتعاسة. هناك الـ “نايت كلوب”، حيث الفاتنات يرقصن على الطاولات في ليل المدينة العبثي والمجنون، والـ“سوبر نايت” حيث يلتقي بطلنا «عرّاباً» من كرتون ليشتري منه مسدّساً، فإذا بالأخير ينفجر بنوبة هستيرية في مرأب مهجور للسيارات (حسن فرحات).
إنها رحلة إلى أعماق المدينة، غوص في لاوعي الجماعة. “فلافل” عن العنف الكامن في ذرّات الهواء، في تعاطي الناس مع بعضهم في الشارع. في طريقة قيادة السيارات. في قصص القهر الدفينة، وعلاقات القوّة التي تشكّل طقساً اجتماعياً وثقافياً. وفي مشاهد العنف العسكري والخطف في بلد الحروب الأهليّة الدائمة... كان يمكن أن يكون عنوان الفيلم: يوم عادي في حياة تو، أو يوم فقد السيد تو براءته الأولى. بعد الضربة الظالمة المذلّة التي تلقاها، لن يبقى تو نفسه، وستضيع منه على الأرجح ابتسامة ياسمين وعناقهما الأول. فيعيش مغامرة من نوع PULP FICTION، يصطدم بفجاجة الواقع... ثم يغفو كالطفل قرب أخيه - فيما صديقه عبودي المسطول ينتظره أمام العمارة (عصام بوخالد يمثل على طريقة روبيرتو بينيني) - بعدما وضع المسدس جانباً. يغفوان، حولهما أشياء الطفولة الهاربة، وفوقهما بوستر لمحمد علي كلاي.
الذين شاهدوا أفلام ميشال كمّون القصيرة، مثل “ظلال” (1995) و”الحمّام” (1999)، كانوا ينتظرون بفارغ الصبر العمل الروائي الطويل لسينمائي شاب يمتلك نظرة حادة وساخرة الى الواقع. والعرض العالمي الأوّل لـ“فلافل” لا يترك مجالاً للشك: لقد ولد للسينما اللبنانية والعربية أمس الأوّل مخرج محمّل بالأفكار والمفردات البصرية والاجتهادات الشكلية والمراجع و... النوايا الطيبة.
يحمل الفيلم أيضاً كل ارتباكات العمل الأول، من سذاجة الطرح الى ضعف البنية الدرامية، مروراً بكثرة “المقترحات” والإحالات والمراجع التي لم يتم استيعابها عضوياً في بنية واحدة متماسكة. كان لا بد من خروج “فلافل” كي يصبح هذا النقد ممكناً. لكنه لا يقلل من فرحتنا بهذا الحدث السعيد.