رنا حايك
فجأة تعطّل الميكروفون. وضعته دنيا جانباً بهدوء وجلست إلى حافة الخشبة وواصلت الغناء. كان ذلك في اللقاء الأول الذي جمع المغنّية المصرية دنيا مسعود بجمهور مسرح بيروت، في مناسبة يوم المرأة العالمي (2001). يومها أسرت دنيا الحاضرين بأدائها التراث الصعيدي عندما اختارت مربّعات «نعناع الجنينة» مدخلاً الى بيروت. أخذتنا يومها كالعادة في رحلة بين الأقاليم المصرية لاكتشاف تراثها الغنائي. كانت أسوان نقطة البداية مع بضعة مربوعات من قصيدة «نعناع الجنينة» الغزلية التي تناقلتها الأجيال حتّى تجاوزت الألف بيت، وتغنّى على إيقاع السلّم الخماسي الذي يميّز الموسيقى الافريقيةفي أمسياتها تتجول دنيا عادة بين مدن الدلتا، لتقدم «الغنى الفلاحي» الناعم الذي تدعو فيه الفتاة عاشقها إلى التمهل في اندفاعه وتخاطبه في أغنية “روّق القناني”. تصل إلى مدن القناة وبورسعيد «الصامدة»، فنسمع أغاني الخنادق على إيقاع السمسمية. أما الإسكندرية فتتجلى “كوزموبوليتيّتها” في غلبة إبداع الفرد على إبداع المجموعة، وتفرز أغاني مثل «من فوق شواشي الدرة» لبدرية السيد.
يوم رمت دنيا الميكروفون في بيروت قبل سنوات، كانت تقف عند أقرب نقطة ممكنة من مفهومها لـ“الفولكلور” كفنّ شعبي حيّ وتفاعلي. ذلك الفن الذي «تعلّبه للأسف مؤسسات رسمية أو خاصة مدعومة بتمويل أجنبي، لتحتكر تسجيلاته وتكتفي بعرضه في إطار سياحي استشراقي يضرّ بجوهره»، كما تقول. واليوم تعود الى بيروت، كأنها لم تغادرها. عاشت من بعيد العدوان على لبنان، فأعادتها المعاناة إلى مأساة بني سويف التي سرقت منها بعض أقرب الأصدقاء الصيف الماضي.
بدأت جمع الفولكلور ذات يوم من 2001، واستمرت كل هذه السنوات من دون أي دعم. في تلك الرحلة المتواصلة الى أعماق الثقافة الشعبية المصرية، كان عتاد دنيا بسيطاً: جهاز تسجيل وورقة وقلم، وحفنة من الجنيهات للتنقل بالقطار بين منطقة وأخرى. ليس لدى هذه الفنانة الشابة، الآتية من المسرح، هاجس جمع التراث والحفاظ عليه. كل ما في الأمر أنها التقطت من الفولكلور جانبه الحيّ الذي يشرّع الغناء على مادة حسية صريحة «أصبحت ممنوعة في مجتمعاتنا الوهابية»، وهذه المادة تنتظم عادةً في قالب درامي وجدت فيه دنيا صدى عشقها للمسرح. مثّلت دنيا في أعمال مسرحية في القاهرة، بينها «جنون البشر» للينين الرملي (1996)، و«مساء الخير يا مصر» لناصر عبد المنعم (1997) الى جانب سوسن بدر ومحمد منير. وفي التلفزيون، كان لها أدوار صغيرة آخرها في مسلسل خيري بشارة «قلب حبيبة» الذي يعرض في رمضان المقبل. ونشاهدها قريباً على الشاشة الكبيرة في «شقة مصر الجديدة» من إخراج محمد خان وفي «جعلتني مجرماً» لعمرو عرفة. لكنّ الغناء كان له الحصة الكبرى في مسيرتها، هامت على وجهها كالتروبادور في حارات مصر للملمة نثار الذاكرة الجماعية. ومشوار دنيا كان صعباً. اضطرّت للعمل نهاراً في محلات ملابس أو «جزارة» أو حلاقة... ومع نهاية يوم العمل المضني، كانت تعود إلى بروفاتها المسرحية وحفلاتها الغنائية.
ها هي دنيا مجدداً في بيروت إذاً. الجمهور على موعد هذا المساء مع مواويل مصر المحروسة في مطعم «وليمة وردة» المعروف باستضافة فنانين يغرّدون خارج السرب.