نزيه الصديق
لم يبق من المبيّضين الكثر أيام زمان في طرابلس إلا زكريّا المبيّض. هو وحده عاند الزمن ليحافظ على مهنة كرّس لها كثيرون في الماضي أيامهم.
يروي المسنّون أن عدداً كبيراً من المبيضين كانوا يعملون في عاصمة الشمال. يدل على ذلك الوجود الكثيف لآل المبيّض في المدينة، فقد اكتسبت العديد من العائلات العاملة في حرفة التبييض اسمها من الحرفة.
كان التبييض حرفة تقليدية ضروريّة لحياة السكان لأن غالبية الأواني المنزلية كانت من النحاسيّات.
حرفة “التبييض” التقليدية مهددة بالانقراض بسبب النماذج الجديدة للأوعية التي لا تحتاج إلى مجهود كبير لغسلها أو إلى صيانة دورية، وبعضها أرخص ثمناً من الأوعية النحاسية.
يشرح زكريا أن النحاس معدن يميل إلى “الطراوة”، لذلك فهو مادة سريعة التفاعل مع الهواء “وما إن يتعرّض للأوكسجين حتى تظهر عليه علامات التأكسد التي تعرف بـ “الزرنيخ” العالي، وهي مادّة تبدو كالطفيليات على وجه النحاس، وتكفي كمية قليلة منها لقتل الأحياء، ولذلك تستخدم في مكافحة الحشرات والزواحف والفئران بمزجها بالقمح.
يحتاج النحاس لما يسمّى “التبييض” أي الطلاء بطبقة من القصدير التي تحميه من التأكسد، وتقي المواطن من التسمم القاتل.
العدّة التي يستخدمها زكريا هي المنفاخ الذي يؤجج النار بغية تنظيف الأوعية وتذويب القصدير، والرمل الخشن لحفّ الأوعية قبل الطلاء، واللبادة السميكة لمدّ القصدير وهو لم يزل ذائباً، أي شديد الحماوة، وهي تحمي المبيّض من الاحتراق.
وهناك طريقتان لحفّ الأوعية. إما بالرجل، وهي المعتمدة لدى مبيّضي الأرياف الجوالين، حيث يثبّت المبيّض الوعاء على الأرض، ويضع فيه رملاً خشناً، ولبّادة سميكة، وينزع حذاءه، ويقف في الوعاء برجليه الاثنتين، ويبدأ بالحفّ بقوة وهو متمسّك بالحائط، يبرم نصف برمة، ويعاودها بالاتجاه الآخر في منظر مثير للضحك. ويحتشد الأولاد حوله وهو يتسارع في حركته التصاعديّة وهم ينشدون له: «هزّ حالك يا مبيّّض».
أما في المدن، فللمبيّض مركز ثابت يمكّنه من تثبيت الوعاء، فيحفّه بيده بقوة، مستعيناً باللبّاد والرمل والمياه. بعد أن تزول البقع عن الوعاء، يحرّك المبيّض منفاخه، فتتأجج النيران في الموقد، ويذوب القصدير تحت وطأة المنشّط الطبيعي المعروف بالنشادر، وما هي إلا لحظات حتى يلبس الوعاء حلّته اللماعة الفضية.
ورث زكريا محلّه عن والده، ومركزه في محلّة الجسر التي كانت ضمن الأحياء الداخلية لطرابلس قبل الفيضان عام 1956، وبات على مداخل الأحياء الداخليّة للمدينة بعد أن نفّذ مشروع توسيع النهر في أوائل الستينات من القرن الماضي.
يكاد يكون زكريا المبيض (45 سنة) الوحيد الذي يمارس مهنة تبييض النحاسيات على اختلاف أنواعها في طرابلس. المبيض روى قصته مع مهنته التي بدأ العمل بها عندما كان في الحادية عشرة من عمره، معتبراً أنها متعبة ومردودها المالي قليل، ولهذه الأسباب تعاني تراجعاً في الإقبال على تعلّمها. وعبّر عن قلقه الدائم من زوال المهنة بعده.