في «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» (2011 ـ 70 د) الذي يعرض مساء اليوم في المكتبة العامة لبلدية بيروت (الباشورة) بدعوة من «نادي لكل الناس»، تستعيد المخرجة رانيا اسطفان مسيرة سعاد حسني السينمائية لترسم «بورتريه» تفصيلياً وحميمياً عن الممثلة، مازجةً في أسلوب سردها بين الشخصيات المختلفة التي أدّتها حسني لتشكل شخصاً ثالثاً يتماهى في ذات الوقت مع التاريخ الشخصي للفنانة وللسينما المصرية.
يبدأ الفيلم بمشهد من فيلم «بئر الحرمان» (١٩٦٩) للمخرج كمال الشيخ حيث تؤدي حسني دور فتاة مصابة بالفصام ذات شخصيتين متناقضتين: ناهد المحافظة نهاراً وميرفيت اللعوب والحرة في علاقاتها الجنسية ليلاً. تجلس سعاد حسني في عيادة الطبيب النفسي الذي يطلب منها أن تعود بالذاكرة إلى الوراء.
عن هذا المشهد، تقول اسطفان إنّها اعتمدته في مستهلّ شريطها كوسيلة للعودة بالذاكرة واستخدام أدوات اللاوعي في سردها السينمائي. فهي سعاد حسني التي تروي قصتها، حيث لا نص روائياً يواكب الفيلم. عبر المشاهد المنتقاة من ٦١ فيلماً، تعيد اسطفان تشكيل الذاكرة السينمائية للممثلة التي تتماهى ـــ بطابعها المركب والانتقائي في السرد ــ مع ديناميكية عمل الذاكرة نفسها. ذاكرة ليست أفقية، بل مليئة بالثُّغَر والمشاهد التي تعيد نفسها كما في حال الجملة التي تتكرر عبر الشريط «الخيال أجمل من الحقيقة».

عرض مكتبة
الباشورة «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» لرانيا اسطفان


سرد المخرجة السينمائي يشبه بناء الحلم أو يتحول كابوساً كما في النهاية، حيث تتداخل المشاهد. وفي بعض اللقطات، تتحاور الممثلة أو تتواجه مع نفسها من خلال الأسلوب الذي تعتمده المخرجة في المونتاج. كأنما هي الشخصيات المختلفة التي أدتها حسني تتصارع في ما بينها، معبّرةً في تناقضاتها عن أوجه الشخوص المختلفة الكامنة في الممثلة. تلك الشخوص بدلالاتها النفسية أو الاجتماعية تشكل أيضاً صورة المرأة في السينما العربية والمصرية.
تعزو أسطفان اهتمامها بحسني دون غيرها، إلى السمات المتناقضة والخاصة التي تمتاز بها «سندريلا الشاشة العربية» ولا نرى لها أي شبيه في السينما العالمية، فهي جمعت بين المرأة الرقيقة والمثيرة والشقية والمغنية في آن واحد، من دون أن تسجن ضمن صورة نمطية واحدة. وإذا كنا ندخل في الحلم ونعود إلى بداية رحلة حسني في السينما في الفصل الأول، فإننا نواجه شخوصها المختلفة في الثاني. نراقبها تخرج من جلد شخصية لتتقمص أخرى. الفصل الأخير هو فصل الانهيار. عبر المشاهد القاسية التي اختارتها المخرجة من أفلامها، نرى سعاد المعنفة أو المغتصبة أو المهجورة من قبل الرجال، بخلاف الفتاة المحبوبة التي ترى الحياة بلون «البمبي» كما في أغنيتها الشهيرة. إنّه أيضاً سقوطها ضمن النظام الذكوري من المعبودة إلى المنفية. نظام تندرج علاقته مع المرأة إما في إطار التقديس، تماهياً مع صورة الأم أو العذراء، أو التعنيف وعقاب المرأة لشعورها بالرغبة، فتتحول عاهرةً بنظره، أو مثلاً الهوس المرضي بصورة المرأة الطفلة الذي يتجسد في فيلم كـ«صغيرة على الحب» (١٩٦٦). تقول المخرجة إنّها أرادت في الفصل الثالث أن تعبّر عن تراكم التجارب على جسد الممثل، سواء كان هذا الجسد يُعبد، يُقدَّس أو يهان أو يعنف، كما أرادت أن تظهر كيف أنّ تراكم هذه التجارب أو الحيوات التي يعيشها الممثل قد يكون مرهقاً نفسياً. لعلّ ذلك هو أحد الأسباب التي تودي بالممثل إلى محاولة التخلص من جسده والانتحار كما في حالة سعاد حسني. إلى جانب كونه وثيقة عن الممثلة حسني والسينما المصرية في آن واحد، اللافت في الفيلم هو الرسم التفصيلي الذي يقدمه عن صورة المرأة العربية في السينما. صورة ليست سوى مرآة لنظرة المجتمع والتحولات التي مرت بها ولو أن كلمة «تحوّل» مبالغ بها، فهي للأسف أقرب إلى الثبات، فكل حرية مكتسبة يقابلها ردّ فعل أشد رجعية. بالتالي، قد تمثّل سيرة سعاد حسني السينمائية الأوجه المختلفة للمرأة العربية والصراعات التي تواجهها وحتى تناقضاتها الداخلية.
ذلك لا يعود فقط إلى تنوع الأدوار التي لعبتها، بل إلى شيء غامض فيها يمنحها القدرة على تجسيد شخوص مختلفة ضمن شخص الممثل الواحد، ويجعلنا نتساءل أيها فعلاً أقرب إلى شخصها الفعلي، ويبقى السؤال ملتبساً مثل حادثة انتحارها.

* «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة»: 19:00 مساء اليوم ـــ المكتبة العامة لبلدية بيروت، الباشورة ــ للاستعلام: 01/667701