يحرص رجال السياسة على التأكيد أن خطابهم الإعلامي هدفه أن يجعل المشاهد على دراية بمجريات الأمور. ويكثرون، لتأكيد صدقهم، من المصطلحات والكلمات المؤثرة... لكن إلى أي حد يكون هذا الخطاب صادقاً؟
مهى زراقط

ينادي الوالد طفله الذي كان يلعب في غرفته. يطلب منه أن يتوقف عن اللعب قليلاً ويذهب ليبتاع له علبة دخان من الدكان الذي يبعد “خطوة واحدة” عن البيت. ينصاع الطفل، يترك اللعب في الغرفة، ويعدّ نفسه للخروج. خلال اعطائه المال، يقول له والده إن الدكان الذي يبعد “خطوة واحدة” مقفل وإنه سيضطر للذهاب إلى الدكان البعيد... يقع الطفل في الفخ. فهو بعدما ترك اللعبة واستعدّ للخروج، لم يعد قادراً على رفض طلب والده الذي استدرجه إلى عمل ما لم يكن ليعمله لو عرف مسبقاً أن الـ “خطوة الواحدة” ستتحوّل “خطوات”.
هذا الاستدراج الذي مارسه الوالد على طفله، إذا طُبّق على السياسيين الذين يطلبون من جماهيرهم الاستمرار في دعمهم، يصبح اسمه تضليلاً. إلا أن الاستدراج الذي لجأ اليه الوالد، ليس الا من أبسط “التقنيات” التي يمارسها بعض السياسيين المتملّكين لمهارات الاتصال الإعلامي والذين لا يفعلون أكثر من الاستمرار في “الطرق” على عقول جماهيرهم، خصوصاً أن بعضهم يؤمن بذلك انطلاقاً من اعتباره الشعب اللبناني “فاقد التفكير”، كما عبّر النائب وليد جنبلاط خلال إطلالته قبل يومين على شاشة “المؤسسة اللبنانية للإرسال” ضمن برنامج “بكل جرأة”.
ماذا لو استعدنا ما قاله النائب جنبلاط، وحاولنا أن نستعمل ما “تبقى” من قدرتنا على التفكير لنحلّله؟
يصرّ الزعيم الاشتركي على تقديم كل ما يقوله للمشاهد على أنه “كلام للتاريخ”. ومن أبرز ما قدّمه للتاريخ في مقابلته الأخيرة، قوله إن المقاومة اللبنانية للاحتلال الاسرائيلي لم تبدأ مع “حزب الله”. وهذا كلام صحيح تاريخياً. لكنه أضاف أن العملية الأولى ضد الاحتلال وقعت عند مقهى “المودكا”، مع أن التاريخ يقول إن العملية التي يقصدها وقعت أمام مقهى “الويمبي” لا “المودكا”. (والتاريخ القريب جداً يقول إن مقهى “المودكا” تحوّل إلى محل للثياب كما معظم محال شارع الحمرا التي خضعت لـ “الواقعية الاقتصادية”... في انتظار حصول تحوّل لبناني نحو “الواقعية السياسية”).
لم يقتصر الخطأ في التاريخ على مكان العملية، بل على وصفها بالأولى. فالتاريخ القريب أيضاً، يقول إن العملية الأولى نفّذت في منطقة كليمنصو قبل إعلان “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية”، واستشهد خلالها جورج قصابلي. وتلتها عمليتان لـ “الحزب الشيوعي اللبناني”: الأولى قرب صيدلية بسترس والثانية قرب محطة أيوب.
التضليل المعرفي
كلام جنبلاط التاريخي عن بدايات المقاومة يوصف، إعلامياً، بالتضليل المعرفي للمشاهد الذي يحرص جنبلاط في كل مرة يطلّ فيها على أن يعيد سرد التاريخ له، من منطلق تجربته الخاصة. وإذا كان ممكناً التجاوز عن هذا التضليل معتبرين أن اللبناني يقرأ ولا ينسى (لأن الجميع يقرأ لا نواف الموسوي فقط ــ كما أكدت لنا الإعلامية مي شدياق)، فإن نوعاً آخر من التضليل مارسه جنبلاط، وهو بالغ الخطورة، خصوصاً لمن بات حريصاً على دعوة الجميع (لا سيما الطائفة الشيعية) إلى الانضواء في مشروع الدولة. جنبلاط اكتشف في نفسه أخيراً “جرأة أدبية” خوّلته الاعتراف أولاً بأنه كان خلال 22 عاماً “أداة سورية”، وثانياً بأن “الرئيس السوري حافظ الأسد كان مجرماً”... لا بطلاً قومياً عربياً كما كرّر لنا لسنوات، هذا الاعتراف يمكن أن يوجد لدى المشاهد مشاعر بالتضامن مع السياسي النادم، وهو يمكن أن يوصف بالخطاب السياسي الصريح، لكن تتمّته تجعله عكس ذلك. جنبلاط رأى أن تأخره في هذا الاعتراف هو مجرد “نقطة سوداء في تاريخي”.
هنا يمكن القول إن جنبلاط مارس تضليلاً معرفياً (قدّم معلومة صحيحة: هي أنه كان أداة سورية)، ونفسياً (الاعتراف، وما يولّده من مشاعر تعاطف)، ليخلص إلى الطلب من الآخرين ألّا يستمروا في العمل أدوات سورية، وأن ينخرطوا في مشروع الدولة (وفي استخدام كلمة سورية أكثر من معنى، لأنها باتت تحمل في الذهن اللبناني ما تحمله كلمة “إرهابي” في الغرب أو “مغربي” لدى الفرنسيين).
وإذا كان السؤال المباشر هنا عن “استغباء” المشاهدين من خلال اعتباره كل ما ارتكبه مجرد “نقطة” سوداء (ليس بقعة مثلا!) فإن السؤال الأهم هو كيف يستطيع سياسي يعترف بأنه “كان” أداة، أن يستمر في الدولة ومشروعها؟ ألا يترتب على عمله “أداة” أي مسؤوليات يفرضها الانخراط في بناء مشروع الدولة؟ وما هي مواصفات هذه الدولة التي يرسم مشروعها من كان “أداة” لعقود من الزمن؟
وبالعودة إلى كلام جنبلاط الذي يطلب من الأمين العام لـ “حزب الله” أن يستقيل من منصبه لأن الانتصار “اللا إلهي” كبّد لبنان بين 10مليارات و15 مليار دولار (لاحظوا هنا الاستخفاف بالأرقام، كأن فارق الخمسة مليارات دولار ليس شيئاً يذكر)... نقول ماذا لو تحدثنا عن الـأرقام التي كبّدها عمله “أداة سورية” لدى “المجرم” حافظ الأسد خلال الحرب؟ وما سيكبّده الآن وهو يطالب باستكمال عودة المهجرين من التبرعات التي قُدّمت لضحايا العدوان الاسرائيلي على لبنان؟
كنا ننتظر أن تطرح الزميلة مي شدياق كل هذه الأسئلة، خصوصاً أننا نثق برغبتها في رؤية مشروع الدولة الفعلية يتحقق، وأننا نفترض أنها تتمتع بالكثير من الذكاء والمهارة، الأمر الذي ينبغي أن يحول دون وقوعها ضحية تسيير الضيوف لبرنامجها الجريء.


الكلام المضلَّل

تحوّل كتاب “الكلام المضلَّل” (La parole manipulée) للباحث الفرنسي الشهير فيليب بروتون إلى إحدى كلاسيكيات الكتب الإعلامية التي تناولت آليات التضليل الإعلامي. لاقى الكتاب شهرة واسعة على رغم صدوره عام 1997، وبعد توقف الحديث في أروقة الإعلام عن التضليل والدعاية الإعلاميين.
يرفض بروتون القول إن التضليل الإعلامي انتهى مع الحرب العالمية الثانية، ويجد في الممارسات الإعلامية الحالية أنواعاً أخرى من التضليل. تضليل يدفع المواطن إلى فعل ما لم يكن ليفعله قبل تلقي الرسالة الإعلامية، وهذا ينطبق على الإعلانات والخطاب السياسي. ولعلّ أهم ما يميّز كتاب بروتون أنه قدّم جدولاً بأنواع التضليل التي يمكن إيجادها في الرسالة الإعلامية. وقسّم التضليل إلى نوعين: نفسي ومعرفي.
في التضليل النفسي، تقوم الدعاية على الإغواء والتملق، وتجميل اللغة والتخويف والتكرار. أما التضليل المعرفي، فيقوم على إعادة تأطير المعلومة ذاتها، فعوض أن تقول “جريمة” تقول “حادث”. وغالباً ما يتداخل النفسي بالمعرفي مع خلق الالتباس بين المعلومة والصورة من خلال ربطها بحدث ما (ربط السيجارة بالرجولة كما في إعلانات “مارلبورو” على سبيل المثال).