دينا أبي صعب
ريما خشيش يلازمها اليوم لقب لم تكن تتوقعه حين ارتمت صغيرة في أحضان الطرب الأصيل: مطربة السينما الشابة والطليعية في لبنان. فالفنانة اللبنانية الشابة لم تترك فيلماً خلال السنوات الماضية، الا وأطلت فيه بفقرة أو مقطع غنائي، من محمود حجيج الى غسان سلهب، وصولاً الى الفيديو القصير الذي صوره شبان وشابات “بيروت دي سي” خلال العدوان الاخير على لبنان، وصار عنواناً للمرحلة: “ من بيروت الى يلي بيحبونا”. لم يعد مستغرباً، والحالة هذه، أن تغني ريما مساء اليوم في ختام الدورة الرابعة من مهرجان “أيام بيروت السينمائية” في «مسرح كركلا - إيفوار» (سن الفيل).
يحمل برنامج الحفلة عنواناً معبّراً: “لو فيك تحكي للحبايب شو بني”، ويتضمّن باقة من 12 أغنية مختارة من أغنيات السينما عربية في أجمل محطاتها. ستختار ريما خشيش كما عودتنا، باقة رحبانية من الأفلام اللبنانية مثل “يا طَير” (فيلم “سفر برلك”) و"أمي نامت عا بكير” (فيلم “بياع الخواتم”). وتحتل الأغنيات المصرية موقع الصدارة طبعاً، "الحلو ليه تقلان” لصباح (فيلم "ثلاث رجال وامرأة”)، و“كنت فين” لعبد الحليم حافظ (فيلم “بنات اليوم”)، و"إيمتا حتعرف” لأسمهان (فيلم "غرام وانتقام”)، و”الصبا والجمال” لمحمد عبد الوهاب...
ريما التي تختتم اليوم “أيام بيروت”، كانت بالأمس تقاوم على طريقتها مع مجموعة من الفنانين والمخرجين. ساهمت في “رسائل فيديو” وجهها الى العالم مخرجون لبنانيون خلال الحصار. والمتتبع لخشيش لن يفاجأ بهذه المبادرة من فنانة عوّدتنا دائماً على الاصالة وتبنّت خطاً “غير تجاري” في الغناء، واضعةً نصب عينيها همّاً واحداً هو اعادة احياء التراث.
دخلت ريما خشيش مغامرة الفن الأصيل منذ نعومة أظفارها. هي صاحبة الموهبة الاستثنائية التي تربت في كنف والدها الموسيقي وعازف القانون، فتشبّعت بالفن الاصيل والتراث وبرعت في أداء الموشحات والقصائد والأغنيات الطويلة. لفتت الأنظار في التاسعة مع “فرقة بيروت للتراث” (التي أطبقها سليم سحاب) ،وتميزت بصوت موزون دقيق الانتقال بين علامة موسيقية وأخرى، مفتوح لا يعتمد على الحنجرة في خروجه بل على استخدام النفس وتنظيمه، وعلى تطويع حركات الوجه والفك لاستخراج أقصى ما في الصوت من رنين. هذه التقنية الغربية الكلاسيكية في الغناء ميزت أداء ريما عن سواها من المطربات، وجاء إحساسها القوي باللحن ليصقل موهبتها، وقد عبّرت عن ذلك يوماً بقولها: “احساسي باللحن اقوى من احساسي بالكلمة”.
والمتتبع لمسيرة هذه الفنانة الثلاثينية، يعرف أنّها لم تكتفِ في تجربتها بأداء الموشحات، بل خاضت رهان التجريب انطلاقاً من الموسيقى الكلاسيكية، فنجحت في إضافة بعد معاصر على أعمال تراثية مع احترام منطقها الخاص. ووجدت بعد خروجها من عباءة سليم سحاب، مساحةً للارتجال وهامشاً أكبر للتعبير عن احساسها بالأغنية. هكذا أطلقت ألبومها “أورينت اكسبرس” (2003)، وفيه تزاوج بين الموسيقى الشرقية والجاز. غامرت ريما باداء مؤلفات القصبجي وعبد الوهاب والرحابنة على ايقاع الساكسوفون والدرامز والكونترباص، مشرّعة التراث العريق على الارتجال الخلاق والتجديد المبدع. وجاء الألبوم الثاني “يالللي” (2006)، ليبرز اصرارها على الاختلاف، من خلال تأدية الموشحات في حلة عصرية. ويزاوج التوزيع الغربي في الاسطوانة بين الجاز والموسيقى الشرقية الموغلة في آهاتها. هكذا، غنّت “حبي زرني ما تيسّر” لدرويش الحريري و“لاه تياه” لفؤاد عبد المجيد، و”عاطني بكر الدنان” لكامل الخلعي مع آلة الكونترباص. ما يعدّ سابقة في غناء الموشّح واستخدام الكونترباص في الموسيقى الشرقية معاً.
حفلة ريما خشيش هذا المساء حدث بكل ما للكلمة من معنى. فهذه الفنانة المقلّة في إطلالاتها، تحرص على ايصال رسالة حضارية تثقيفية، وعلى مصالحة شباب اليوم مع الأعمال الخالدة والطرب الأصيل.