رلى راشد
ليون “مدينة النهرين” لا يكاد يطول سُباتها. منذ أيلول عام 1984، تحتضن “تلة الضوء” مرة كل عامين “بينالي الرقص” الذي يستمر 21 يوماً. وهذا المهرجان المخصص للرقص المعاصر هو من أهم المواعيد العالمية في هذا الاتجاه، أي إنه أكثر من مجرد حدث “سياحي”... إنّه مساحة للتلاقح الثقافي، وبات بمثابة فضاء للتفاعل السياسي والانساني، وللحوار مع الثقافات البعيدة عن المركز الأوروبي. وبرنامج هذا العام الذي يحمل عنواناً عريضاً هو “عالم المدن ومدن العالم”، تلتقي تحت رايته قارات العالم الخمس، بعد بداية حصرت اهتمامها بتسليط الضوء على تجارب مختلفة آتية من بلد واحد. فالدورة الرابعة مثلاً كُرّست للولايات المتحدة، وجمعت أساطير الرقص الأميركي الحديث من مارتا غراهام إلى بول تايلور.
هكذا تحتل فضاءات ليون الفرنسية، حتى آخر الشهر، فرق وتجارب وعروض من 28 مدينة كان من المفروض أن تكون بينها القاهرة لكنها ألغت مشاركتها لأسباب تقنية. ويقف على مسارح المدينة 600 فنان، كل منهم يأتي محملاً بثقافته وإرثه، بأحلامه وانكساراته، وبتجارب تجمع بين الرقة والعنف، بين التقليدية والتجديد. ونلتقي هذه الأيام تجارب مختلفة المشارب والتوجهات في 33 موقعاً موزعاً بين ليون ومحيطها: من طوكيو، يستوحي كيم أتو من الروائي الياباني يوكيو ميشيما عرضاً يغرف من التقاليد القديمة لأمبراطورية الشمس الشارقة، ومن باريس تشارك مصممة الرقص كارين سابورتا التي تحمل في جعبتها هذا العام ذكريات من القاهرة. وتأتي فرقتا “ساليا ني سييدو” و«فاسو دانس ثياتر» من واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو لتبلغ تخوم المواجهة بين التقليد والحداثة. والقارة السوداء، بمناهلها الحضارية وموقع الجسد من تقاليدها، هي أيضاً موطىء قدم فرقة Floating Outfit Project المتنقلة بين دوربان وجوهانسبرغ التي لم تشف بعد من آثار نظام التمييز العنصري الذي أدمى ذاكرة القارة السمراء. ويتمثل الرقص النيويوركي الحديث، بتجربتين على درجة من التميز والطليعية: الأولى يقدمها رشيد أورمدان الفرنسي من أصل جزائري، والثانية تقوم على ابتكارات تيري أوكونور. هذه الصدمة الثقافية الإيجابية، تجد صداها في المقلب الآخر من الكوكب مع عرض للفرقة الأوسترالية Force Majeure يقوم بتسجيل مشاهد من يوميات الطبقة الوسطى في ضواحي سيدني الهادئة في عرضها Already Elsewhere. وكما شاءت تقاليد المهرجان يختتم المهرجان بعرض باليه لأوبرا ليون، يقدم تحت قبة دار الأوبرا الجديدة التي صمّمها جان نوفيل.
ولا تغيب الصورة عن مدينة الأخوين لوميير مؤسسي الفن السابع، إذ يعرض “قصة الحي الغربي” West Side Story، على شاشة عملاقة في الهواء الطلق، والفيلم يجمع بين الموسيقى (ليونارد برنشتاين) والرقص طبعاً... فيما يضبط الشارع إيقاع المدينة المُحتفية، فتخرج بعض عروضها لملاقاة السكان. وهذه الرغبة في أن «يجتاح الرقص المدينة» عبّر عنها مبتكر الحدث غي دارمي الذي أراد أن “يدخل الرقص، مختلف أشكال الرقص، الى كل المنازل من دون حدود ثقافية أو اجتماعية، وأن تستحيل ليون ساحة اختبار لتجارب الابتكار الفني المعاصر”. بينالي الرقص في دورته الـ12 يحمل الى المدينة مناخات حيوية ممتعة، تواكب عودة فصل الخريف الى المدينة التي تشرّع أبوابها على مختلف مشاريع التحديث. ومهما اختلفت طقوس الرقص وتعددت، ترفد جميعها الجسد بلغة موحدة، بحوار صامت يبوح بالكثير من دون أن ينطق بكلمة واحدة... ذلك أن الرقص شعر خافت، لا يلتقطه إلا من يجيد الإنصات الى الحركة المواكبة لقوة الصمت!