صفوح منجد
في شهر رمضان تشهد مدينة طرابلس الشمالية تحولات في حياتها اليومية، أبرزها تلك الشعائر الدينية والروحانية التي تضفي على المدينة أجواء من الحركة التي لا تهدأ منذ فترة الظهيرة حتى ساعات الصباح الأولى. توارث الطرابلسيون الكثير من العادات والتقاليد ذات المنشأ المملوكي والعثماني التي التصقت بحياتهم وعاداتهم، وإن كانت التطورات والمصاعب الاقتصادية ومظاهر التمدن قد جاوزت هذه التقاليد، ولكنها بأية حال لا تزال ماثلة في ذاكرة أبناء الفيحاء الجماعية.
“السيران” من مقومات الاستعداد لشهر رمضان وتتحضر له النسوة وأطفالهن وغالبية العائلات الطرابلسية، وموعد هذا السيران هو اليوم الذي يسبق شهر رمضان، واذا صادف حلوله في موسم الدراسة، فهو ولا شك يوم عطلة.
السيران هو نزهة في البساتين التي كانت قائمة في جنبات المدينة وضواحيها واجتاحتها غابات الباطون التي “انزرعت” مكان شجر الليمون والزفير والجماز والنخيل...
وكانت العائلات تقصد “المرجة” عند ضفتي نهر “أبو علي” في الجهة الشرقية من المدينة ويقضي أفرادها ساعات النهار في التسلية والترويح عن النفس وتناول الأطعمة المحضّرة في المنزل أو المشاوي وأحياناً يطلقون العنان للغناء الشعبي على وقع عدد من الآلات الموسيقية ولا سيما العود والمزمار والدربكة.
كما كانت عائلات أخرى تقصد ضاحية مجدليا لتقيم سيرانها حول عين ماء غارت أخيراً بفعل أعمال البناء، أو تنتقل الى زيتون أبي سمراء وبساتين الليمون عند منطقة برج رأس النهر.
ولكن هذه “السيرانات” في الطبيعة قد تراجعت في السنوات الأخيرة لتحل مكانها السهرات في المقاهي والمطاعم، وكل يقصد المكان الذي “يتوافق وموازنته”...
وينتظر الطرابلسيون بشوق ولهفة إعلان رؤية هلال رمضان، حينما كان وجهاء المدينة يلتقون في العشية في منزل الوالي والمفتي، ينتظرون من يأتي من العلماء ورجال الثقة والشهود، فإذا تأكد لهم بالعين المجردة زوال هلال شعبان يُوعَز بإطلاق قذائف مدفعية لإعلام أبناء المدينة ببدء الصيام في اليوم التالي.
ومدفع رمضان هو تقليد مملوكي كما تشير المصادر، وكان يوضع بجوار قلعة طرابلس وقد “تقاعد” أخيراً ونقل الى الفتحة القائمة في أعلى المدخل عند الباب الرئيسي للقلعة، حيث يستعمل حالياً مدفع من عيار 155 ملم وتطلق منه قذائف صوتية وهي سبع طلقات عند ثبوت الشهر واثنتان عند الإفطار غروباً والإمساك قبيل الفجر بشكل يومي وطوال الشهر المبارك.
ويعقب ثبوت الشهر خروج عفوي لأطفال المدينة من منازلهم ــ وخاصة في الأحياء الشعبية ــ لمرافقة الفرق الصوفية بمزاميرها وطبولها وصنوجها وتنطلق الحناجر بالتكبيرات وتسيطر على الجميع مشاعر من الورع والحبور.
كان الجمع يخترق المدينة القديمة بعد أن تكون أحياؤها قد تجمّلت بالزينات وبأسلاك الكهرباء والأنوار الملوّنة في الحارات والأزقة. وبعض الصبية يحملون الفوانيس التي تمكنوا من شرائها بعدما جمعوا “خرجياتهم” لعدة أيام مضت....