بيار أبي صعب
فنانو موسيقى الراب هم بلا شك “عرّافو” الأزمنة الحديثة، شعراء الشوارع والأرصفة والضواحي المعتمة... إنّهم الناطقون (غير الرسميين) باسم اللحظة الراهنة. كلماتهم مسروقة من لغة الحياة، تتلاعب بالمعنى والمنطق. صرخاتهم الاستفزازية ــ العنيفة غالباً ــ صدى لأعماق المدينة المكبوتة. وإيقاعاتهم المتهافتة ثمار وحشية تغلب عليها المرارة. إرفع إبهامك وسبابتك الى منتصف الطريق بين الخصر والكتف، مدّ يدك قليلاً الى الأمام، دع جسدك ينتفض في حركات غير متوازية. ركّز جيّداً على رشقات الكلمات الناقمة والغاضبة. اترك نفسك هكذا تتأرجح في طقس وثني، احتجاجي، بين الواقع الفج وتباشير النشوة. أهلاً بك في عالم الـ“راب”.
الراب فيه الكثير من التحريض السياسي، إذ يقوم على أسلبة الخطابية المباشرة التي ينبذها “الذوق الطليعي”. لكنّه يعود ليعانق الشعرية، يدخل إليها من أحد الأبواب المنسية، باب الغرابة والبساطة والخفّة و... السذاجة أحياناً. كي تصرخ غضبك في وجه العالم، لا بدّ من أن تكون ساذجاً بشكل من الأشكال.
فنان الراب، وخصوصاً حين تأتينا أغنياته من بؤر التوتر والصراع، هو أكثر من مشاغب... لعلّه نسخة «بوست مودرن» من الفنان الثوري في زمن بلا ثوار ولا شعراء. وليس مستغرباً أن يعرف الـRAP ازدهاراً في بعض المدن العربيّة. بعيداً من ضواحي باريس أو أحياء نيويورك الصاخبة. مدن على حافة بركان، أو خارجة من الزلزال أو مقيمة في قلب الدوامة. فرقة Double Kanon في الجزائر الطالعة من السنوات السوداء. «قطاعيون» و«عكس السير» في بيروت. والآن نكتشف فرقة راب في فلسطين، في غزّة تحديداً: بين بؤس وكثافة سكانية وحصار وجرائم الاحتلال المنهجية، يواصل محمد الفرا ورفاقه تجربتهم التي انطلقت قبل سنوات ثلاث، وما زالت تبحر عكس التيار.
الثقافة السائدة في غزة غير مهيّأة تماماً لقبول هذا الشكل الانقلابي والفجّ والبعيد عن الطرب والآلات الوتريّة. الراب هو الإيقاع أولاً، والكلمات طبعاً... الميلوديا تأتيه زائرة، للزخرفة والإحالة وتأكيد لعبة الانزياح. والتقاليد هي الأخرى، في مجتمع مغلق، لا تتسع لهذا القالب الانفتاحي الجريء. تنقل مراسلة «رويترز» أن الاستقبال الذي لاقاه الرباعي العشريني خلال إحدى حفلاته الأولى في خان يونس لم يكن «ودياً». لقد انهال الحاضرون على محمد الفرا وأيمن مغامس والآخرين بالحجارة، لاستيائهم من أسلوب الأداء الذي اعتبروه «مسيئاً للسيدات الحاضرات»! وذات مرّة هدد مسلحون أحد المرشحين لعضوية الفرقة، فردّ الرباعي الغزّاوي بأغنية عنوانها «منصّة الإعدام».
الراب ممكن في غزة، والحرية أيضاً.