strong>فيلم جوسلين صعب «دنيا» الذي يعرض حالياً على الشاشات اللبنانية، سبق أن أثار ضجة في القاهرة، بسبب التفاوت بين نواياه «التقدمية» (حرية التفكير، ختان البنات) و«نظرته السياحية الى الواقع المصري الشديد التعقيد»
محمد خير

في روايته “خفة الكائن التي لا تحتمل” يكتب ميلان كونديرا: “الاستعارات خطيرة، لا يمكننا أن نمزح مع الاستعارات”. هل قرأت جوسلين صعب هذه العبارة؟ لا نعلم، لكنّها استخدمت في فيلمها “دنيا” الذي يعرض حالياً في الصالات اللبنانية الكثير من الاستعارات، وبعضها استُخدم بخفة لم يحتملها كل المشاهدين.
تصعب مشاهدة الأفلام الإشكالية والكتابة عنها. فما يحيط بها من ضجيج مشحون بالانفعال، يلغي الحيادية المفترضة لدى استقبال العمل الفني، ويجعل العقل ومواقفه المسبقة يحلّان محل الاستقبال الشعوري. على سبيل المثال، يستعيد الأستاذ الجامعي بشير (محمد منير) بصره فجأة في أحد المشاهد، بعدما فقده إثر اعتداء إرهابي، عندما تهديه طالبته دنيا نسخة من ألف ليلة وليلة. وبدلاً من أن يثير هذا المشهد استغراب المشاهدين – حتى لا نقول سخريتهم – يذهب بهم إلى استعادة السجال الحاد الذي دار في مصر قبل سنوات، حول إعادة نشر النسخة الأصلية من كتاب «ألف ليلة وليلة» (طبعة بولاق)، وأدى إلى “منع” تلك الطبعة في منتصف التسعينيات. طبعاً لا يذكر الفيلم أن محكمة مصرية ألغت هذا المنع فوراً، ولا يوضّح سبب استعادة بشير لبصره، فكلّ هذا لا يهم لأننا لسنا في “الواقع”، نحن في عالم من الاستعارات التي ترمز الى المعرفة والرغبة والحرية والإحساس بالذات، كل هذا جميل ومهم ومطلوب... لكن من قال إن النيات الحسنة تصنع فناً عظيماً؟
إعادة اكتشاف القاهرة
الغريب أن المجال الذي لم يتناوله النقد في“دنيا”، كان هو الأجمل على الإطلاق. إذ استطاعت صعب أن تعثر في شوارع القاهرة على روح احتفالية شديدة الغنى بصرياً. في فيلمها زخم من الألوان قد يصعب على ساكن القاهرة نفسه أن يلتقطه. من خلال الرحلات اليومية لسائقة التاكسي عنايات، طافت جوسلين في الشوارع الأصلية، ولم تلجأ الى خيار الاستديو السهل. وبين زواريب وسط المدينة، وسوق “وكالة البلح” للملابس المستعملة، استطاعت المخرجة أن تتحرك بسلاسة كأنها تستخدم كاميرات سرية، وهو أمر يقدّره كل مَن عمل في السينما في مصر ولمس صعوبة التصوير في شوارعها المزدحمة.
لكن يبقى السؤال: في عالم الاستعارات، هل تهمّ تفاصيل “الحدوتة” كثيراًَ؟
دنيا (حنان ترك) فتاة جامعية، يعذبها حاجز خفي يفصلها عن فهم نفسها. وفي محاولتها لتخطي هذا الحاجز، تسلك اتجاهين: اللغة والرقص، أي العقل والجسد أو الروح والبدن... ضع ما تريد من ثنائيات. تحضّر دنيا رسالة جامعية بعنوان “الحب في الشعر العربي”، وتتدرب على الرقص محاولة استحضار أمها الراقصة الشهيرة التي توفيت قبل أن تتعرف إليها... والتي يعتبرها جزء من العائلة “امرأة ساقطة” طبعاً !
في طريق اللغة، يتولاها الأستاذ بشير (محمد منير)، وفي طريق الرقص كان مدربها الأشهر في مصر وليد عوني. الأستاذان يواجهان مع دنيا المشكلة عينها: إنها لا تلتقط روح ما تتعلمه. ففي اللغة، لا تستوعب ما وراء المعنى المباشر للقصيدة. وفي الرقص تقلد الحركات، لكنها ما زالت “متخشبة” على حد قول مدربها. أما حبيبها فتحي عبد الوهاب فهو لا يفهم لماذا تمنعه من لمسها، يظنه سبباً أخلاقيا فيتزوجها. لكن المشكلة تستمر بصور أخرى، إنها لا تشعر به، ولا تجيد التعامل مع جسده... رغم تعليمات صديقتيها سائقة التاكسي عنايات (عايدة رياض) والأستاذة الجامعية أروى (سوسن بدر). ما زال ذلك الحاجز قائماً بينها وبين مشاعرها في الحب، وفي الشعر وفي الرقص. إنها باردة. وهنا نصل إلى جوهر المشكلة: قضية ختان البنات في مصر!
في عشق البنات...
خضعت دنيا للختان في طفولتها، وهو ما تعرضت له عنايات أيضاً. تحاول عنايات طوال الفيلم أن تحمي ابنتها من هذا المصير لكنها تفشل. إذ تقتنص الجدة حفيدتها في لحظة غياب الأم، وتجري لها عملية الختان على يد داية مخيفة ومقززة. يصادف وصول دنيا في تلك اللحظة المفجعة، فتحمل الطفلة النازفة إلى الفندق الــــذي يقـــــيم فـــــيه الدكتور بشير (كيف؟ لماذا؟). كان يفترض بهذا المشهد أن يمثل ذروة الـــــفـــــيلم، إلا أنه جاء مقتضباً سيئ التنفيذ، وخصوصاً أن صاحبة الفندق ترى الطفلة نائمة فتستنتج بعبقرية مذهلة أنها ختنت للتوّ!
اعتمدت صعب على الإيحاء لتنفيذ مشاهد الجنس... لكنها استخدمت كماً مرعباً من المؤثرات السمعية والبصرية، وأطناناً من البخور عند كل لقاء جنسي، ما نتج عنه تصوير الجنس كفعل “ملحمي” أكثر منه طقساً احتفالياً أو لحظة إنسانية بسيطة. كذلك جاء حوار الفيلم، يحاول أن يستقر في تلك المنطقة بين الواقع والرمز. هناك مشهد في الفيلم هو من أغرب المشاهد، لعلّه بين الشواهد التي تختصر نزعة جوسلين صعب إلى القفز المتعمد على الواقع. يدخل الدكتور بشير/ محمد منير مع مريدته دنيا محلاً لبيع الأشرطة الموسيقية، ولا نفهم بالضبط الغاية من زيارته في السياق الدرامي. المهم. نراه فجأة على الشاشة وقد ظهر خلفه “بوستر” ضخم لمحمد منير مبتسماً في دعاية لألبوم “في عشق البنات”... الاستعارات خطيرة والواقع أيضاً!



«السينما؟ امرأة ورجل وسرير» وعندما أطلّت المخرجة على فضائية “دريم”، سألتها منى الشاذلي مقدمة برنامج “العاشرة مساءً” : “ما هي السينما بالنسبة إليك؟”، فما كان منها إلا أن أجابت: “السينما؟ امرأة ورجل وسرير”.