حسين بن حمزة

قليلون يعرفون أن عباس بيضون لم يعدّ نفسه ليكون شاعراً في البداية. لقد بقي حائراً فترة طويلة. يكتب ويتوقف عن الكتابة، معتبراً أنّ الشعر لا يكفيه وأنه كالغناء واللهو، وأن الناس يكتبون شيئاً آخر أكثر جدية في حياتهم. والواقع أن السبب الفعلي لحيرة عباس وتأخره، بالتالي، عن إعلان نفسه شاعراً مردّه إلى شغف بالعمل النظري والفكري. كان حلم عباس أن يكون مفكراً، ولم يغب هذا عن باله حتى بعد قبوله بصفة “الشاعر” وممارسته الشعرية الطويلة التي نشر خلالها 13 مجموعة شعرية. إضافة إلى حلم “المفكر”، انخرط عباس في العمل السياسي والحزبي المباشر، وتوقف خلالها ست سنوات عن كتابة الشعر وسجن مرتين، الثانية منهما في معتقل إسرائيلي، قبل أن يعود ويكتب قصائد سياسية وتحريضية أشهرها “يا علي” التي غنّاها مارسيل خليفة وذاع صيتها وأحبّها كثيرون. إلا أن عباس تبرّأ منها، ولا يزال يرى أنها مكتوبة في مديح شخص قام بعمل إرهابي.
عودة عباس بيضون النهائية إلى الشعر جاءت بعد قراءته للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الذي يسميه “المعلم الشخصي”، فقد عثر فيه على لغة لطالما فضّلها في التفكير والكتابة. لغة مادية وجزئية ومسنّنة وشيئية ومحايدة وقاسية وبلا رحمة. تأخّرُ عباس بيضون في الإعلان رسمياً عن نفسه كشاعر، رافقه تأخّرٌ في النشر أيضاً، وكان ذلك بسبب كسل النشر لا كسل الكتابة والاقتناع بها هذه المرة. وهكذا نشر مجموعته الأولى “الوقت بجرعات كبيرة” (1982) وهو في الثامنة والثلاثين. وكانت قد سبقتها قصائد وكتب كاملة لم ينشر منها سوى قصيدة “صور” التي أنهاها عام 1975 ونشرت بعد عشر سنوات. والفضل في ذلك يعود إلى الروائي إلياس خوري الذي احتفظ بنسختها الوحيدة أثناء الحرب ونشرها لاحقاً في مجلة “شؤون فلسطينية”. مع ريتسوس، وقبلها إليوت وريلكه وبيار جان جوف، وجد عباس نفسه ولغته. وحين كتب قصائد مجموعته الأولى كان ذلك بإيعاز ريتسوسي راح يعثر، في ضوئه، على نبرته الخاصة. هذه المجموعة التي كانت بمثابة إعلان عن بيان شعري شخصي لم تستمر لغتها سوى فترة قصيرة. ظل عباس محتفظاً بحساسيته وافتتانه اللغوي ذاك، إلا أنه أفصح، في مجموعاته اللاحقة، عن تدرجات وطبقات واختبارات وتحولات بلا حصر. في “الوقت بجرعات كبيرة” (1982) نجد حياداً سردياً، جافاً على سطح جملته الشعرية ورطباً في أعماقها. ونقع على جملة متولّدة من نفسها في “نقد الألم” (1987)، ولغة قاسية ومسننة في “خلاء هذا القدح” (1990) و“حجرات” (1992)، ولغة وقائعية تقريباً في “أشقاء ندمنا” (1993)، ولغة عضوية وبيولوجية وفضلاتية في “لفظ في البرد”(2000)...
عباس بيضون أحد أهم شعراء الطور الثاني في الشعر العربي الحديث. عاد أخيراً من مؤتمر “طاولة الأصوات الحرة” الذي أقامته منظمة “دروبينغ نولدج” في برلين، بمشاركة كتّاب ومفكّرين وإعلاميين من أنحاء العالم. وتصدر قريباً ترجمة فرنسية لبعض أعماله الشعرية عن دار “آكت سود” (برنار نويل وكاظم جهاد)، في انتظار أعماله الشعرية الكاملة، لاحقاً، في لغة موليير.