رلى راشد
كارلوس فوينتس، أحد أكبر أدباء أميركا اللاتينية، يطل على قرائه بمجموعة قصصية وخدعة أدبية. في «كل العائلات السعيدة» يفضح الخلية الأُسرية، بؤرة البؤس والتخلف، بدءاً من آدم وحواء «أول عائلة تعيسة طُردت من الجنة».

التصقت أعمال الروائي كارلوس فوينتس (1928) بصورة أميركا اللاتينية، واقترن اسمه بالأرجنتيني لويس بورخيس، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز وغيرهما من رواد الواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتينية. وبينما شكّل التاريخ أرضية بورخيس للانطلاق الى فانتازيا صرفة، أغوت تناقضات المكسيك وأساطيره القديمة و“هجانته” الثقافية هذا الروائي المكسيكي الذي عُرف مناضلاً سياسياً ويسارياً ناصر ثورة كوبا في مرحلة من حياته. هكذا، راح ينقّب في حقل الرواية والبحث والكتابة الدرامية. هو قارئ أولاً، وعاشق أبدي لـ“دون كيشوت” الذي يعيد قراءته كل سنة على حد تعبيره، ليذهل بتعدّد الأجناس الروائية وليكتشف كل مرة طريقة جديدة في قراءته.
آخر أعمال فوينتس مجموعة قصصية بعنوان “كل العائلات السعيدة”، لكن لا تدعوا هذا العنوان يخدعكم. مجموعة فوينتس تخلو من أي غبطة. لقد أفلت صاحب “موت أرتيميو كروز” (1962) هذه المرّة شياطينه المقلقة لتحوم في سماء المكسيك ككارثة وشيكة.
يستعير الروائي العنوان من معادلة وردت في “آنا كارينينا”: “كل العائلات السعيدة متشابهة، فيما كل عائلة تعيسة هي تعيسة على طريقتها المميّزة”. هكذا يستعيد فوينتس الروائي الروسي ليون تولستوي، بسخرية مرّة، ممهداً للمناخات السائدة في قصصه الـ 16 التي تلخّص الظلم الاجتماعي في بلاد الأزتيك. صاحب “غرينغو العجوز”، الحائز جائزة ثرفنتس الأدبيّة المرموقة (1987) والمرشّح الدائم لنوبل الآداب، يعطي هنا صوتاً لناس الشارع ليعبّروا عن أنفسهم أفراداً، لا مجموعةً متراصّة.
ويخيّم التشاؤم على هذا العمل الصادر عن “دار الفاغوارا” الاسبانية، لكنه تشاؤم يتبنّاه الكاتب، ويأخذه على عاتقه مشروعاً يستحق المجازفة. يرفض فوينتس أي تصنيف لعمله هذا. “إنّه ليس رواية ولا مجموعة قصصية، لأن الحكايات تتشابك فيه على وقع الحركة الداخلية للشخصيات التي تتوارى لتظهر من جديد”. أما الرابط الوحيد بين تلك الحكايات، فهو مقاطع من النثر الشعري، أو “لازمات” كما يسميها الكاتب، ينطق من خلالها متسوّلون وأيتام ومروّجو مخدرات وغيرهم من الغالبية المهمشة، الحاضرة الغائبة، في المكسيك. يؤمن فوينتس بقدرة الأدب الرؤيوية، وفي رواياته تنبعث الأساطير المكسيكية لتشكّل وسيلة تأمّل في العالم. في “كل العائلات السعيدة”، يتناول الكاتب الخلافات الأُسرية على خلفية تقاليد أرساها الدين والتقاليد الثقافية بدءاً من آدم وحواء، أول عائلة تعيسة طُردت من الجنة على حد قول فوينتس. لا مساومة هنا، بل قصص عواطف جامحة ترصد أمراضاً اجتماعية وشخصيّة تفضح رياء الإنسان. تختزل “كل العائلات السعيدة” كتابة فوينتس الحسيّة وسرده الانسيابي، وتتقاطع في ثناياها المأساة والكوميديا، في إطار رصد التفاصيل المكوّنة لمناخات العائلة. وتبقى التحولات لازمة، بدءاً من الحبكة عينها (“لا شيء هو كما يبدو عليه بل كما ينتهي إليه”) مروراً بأسئلة عن السعادة وانتهاءً بالتشكيك في أنماطها.
نقع على أب يائس لأنّ استقامته لم يعد لها قيمة في مجتمعه، وابنة تعيش من خلال برامج تلفزيون الواقع، ووالدة متألمة تراسل قاتل ابنتها لتعرّفه بضحيته، وأب عسكريّ يضطر إلى الاختيار بين واحد من ابنيه لإنقاذ حياته. تبدو العائلة نواة المأساة ومساحة نهاية المجتمع، ويقنعنا فوينتس بأن الرواية هي مكان مواجهة الأبناء الثائرين لهذه التراجيديا المزمنة. نصوص “كل العائلات السعيدة” تلملم فتات أشياء: موسيقى “البوليرو” ولغة السينما وتقنيات السرد. وفي عالم أُفرغ من إنسانيته، لا بد من عودة دائمة الى الذكريات. يغلق الكتاب مصراعيه على “العنف والعنف” في تحية الى الروائي جوزيف كونراد وتأكيد نهائي أن إدمان العنف هو الكلمة الفَصل.
وإذا كانت مجموعة “كل العائلات السعيدة” أعادت فوينتس الى دائرة الأضواء، فإن الكاتب الكبير كان أيضاً خلال الأسابيع الماضية حديث الأوساط الأدبية وشغل النقاد الشاغل، بسبب لعبة جديدة تحمل بصماته الخفية في نظر كثيرين... هل تخفّى الأديب المكسيكي في زيّ آخر وحاول أن يخدع قرّاءه؟ من هو صاحب رواية “أسرار الأوبرا” التي بيع منها حوالى 10 آلاف نسخة في خلال ثلاثة أشهر؟ بدأت القصة عندما دخل إمانويل ماتا مغامرة الكتابة في سنته الثانية بعد المئة. خطوة جريئة حقاً لهذا الكاتب المغمور الذي أبدع باكورته الأدبية في سنّ يبدأ فيها العدّ العكسي للوجود على هذه البسيطة. لكن الأمور ليست كما تبدو عليه. ولد ماتا، بحسب دار “بلاثا إي خانيس” التي تبنّت صاحب “الموهبة المُتأخرة”، في ميتشواكان المكسيكية، وها هو يتسلّل الى الأدب البوليسي ناشراً ”أسرار الأوبرا”.
أشعلت الرواية الجدال، وبدأت الشبهات تحوم حول غابرييل غارسيا ماركيز، فيما تداول بعض وسائل الاعلام أسماء خورخي فولبي وفوينتس. وسط هذا الصخب، استعانت صحيفة “ميلينيو” المكسيكية بخبراء من جامعة أوتونوما في المكسيك، لحسم هذه التكهّنات. أخضع هؤلاء الكتاب “اللقيط” لاختبارات تناولت تكرار المُصطلحات، وقارنته بمؤلفات محددة لصاحب “السنوات مع لورا دياز” (1999). وأظهرت النتيجة ــ بأرجحية 95 في المئة ــ أن ماتا ليس إلا الكاتب المدعو... كارلوس فوينتس. لكن لماذا يلجأ كاتب من طراز فوينتس الى التخفّي وراء اسم مستعار؟ لا شك في أنّ هذه “الفكاهة الأدبية” تناسب مزاج روائي مشاكس طبع التزامه السياسي والاجتماعي مسيرته الأدبية، وتعرّض في كتابه «ضد بوش» (2004) لغطرسة الرئيس الأميركي الذي وصفه بدمية متحرّكة لا تستقر على حال. قد يصعب تحديد الغاية من هذه اللعبة الأدبية، وخصوصاً أن فوينتس تجنّب الحديث عنها بشكل علني، تاركاً الباب مفتوحاً لكل التخمينات.
ومهما كان من أمر هذه الخدعة، فهي تسلّط الضوء على فصام هو الخبز اليومي للكتّاب الكبار، في صراعهم مع “آخر” يسكنهم، كما يكتب في إحدى قصائده الشاعر الكولومبي دارييو خارامييو أغوديلو.