نجوان درويش
الفنان الألماني زفن كالْدِن ينتهر معاصريه في تجهيز جديد بعنوان «المتحف الفلسطيني في برلين». هنا مقاربة للعمل الإشكالي والمثير للجدل الذي يخاطر بملامسة «المحظور»
يذهب الفنان الألماني زفن كالْدِن بفكرة “الاعتراف بالذنب الألماني” إلى أقصاها في عمله التركيبي “المتحف الفلسطيني في برلين” الذي يعرض حالياً في غاليري “أبيل للفن الحديث” ضمن فعاليات “معرض برلين للفن”. لا شك في أنّ فكرة تصميم متحف فلسطيني في برلين تستدعي على الفور “المتحف اليهودي في برلين” الذي صممه دانيال ليبسكيند وافتتح في أيلول 2001. (اختير المعماري البولندي الاميركي نفسه لتصميم مشروع “غراوند زيرو” الذي سينهض على أنقاض برجي مركز التجارة العالمي في قلب نيويورك، ويوصف بأنه أهم مشروع معماري في الوقت الراهن).
يكوّن كالدن تصميمه الافتراضي للمتحف من الاسمنت الرمادي (80×80× 60 سنتم) مع شاشة فيديو صغيرة، تَعرض بشكل متواصل مشاهد مسجلة لأول مخيّم للاجئين الفلسطينيين بعد نكبة 48. يمزج الفيديو مشاهد اللجوء بأغانٍ غربية صاخبة تُسمع عادةً في الملاهي الليلية. وهكذا تبلغ السخرية السوداء ذروتها. مشاهد اللجوء القاسية كخيام اللاجئين واحتشاد الأطفال وبؤس الإغاثة... ممزوجة بأغنية تتحدث عن حياة الليل الصاخبة في الملاهي!
لا يخفي الفنان الألماني زفن كالْدِن السؤال الأساسي الذي يكمن وراء عمله الفنّي هذا: «لِمَ لا نعترف بمسؤوليتنا تجاه كارثة الفلسطينيين؟ الرسالة المباشرة لعملي هي زرع مسؤولية ألمانية عما حصل للشعب الفلسطيني”. لا شك في أنّ عمله هذا سيجرّ عليه المتاعب نظراً الى حساسية الموضوع الذي يتناوله في عمله، ومخاطرته في مقاربة أحد محرّمات المجتمع الألماني وثقافته التي تمنح المحرقة مكانة شبه دينية، ولا تسمح بالاقتراب منها بأي نوع من التشكيك أو المساءلة.
يقول كالدن من دون مواربة إن “الهولوكوست تسببت في تبرير جرائم الاسرائيليين في حقّ الشعب الفلسطيني، ما أدى الى وقوع ضحايا مجدداً. ولا نستطيع أن ننكر مسؤوليتنا عن ذلك”. وعند سؤاله عن مدى حريته في عرض هذا العمل، أجاب أنه “ما بقيت أعمال من هذا النوع في دائرة عرض محدودة، بعيداً من ضوء الإعلام. لكن بالتأكيد ستتسبب بمشاكل لو عرضت بشكل واسع وسُلّطت عليها الأضواء”.
لعل في عمل كالدن نقداً ذاتياً على مستويين: نقد الضمير الألماني والقيم التي يستند إليها، ونقد السياسة الألمانية إزاء الصراع العربي الاسرائيلي. وهو يضع المتلقّي العربي أمام سؤال حائر. فالاعتراف الألماني بجزء من المسؤولية عن مأساة تشريد الشعب الفلسطيني أمر أخلاقي بحد ذاته. وإنّ الاعتراف بالذنب قد يحدّ بعض الشيء من مواصلة استخدام إسرائيل المحرقة النازية أداةً سياسيةً لإرهاب منتقدي سياساتها الإجرامية. إلا أن بعض الفلسطينيين يرون أنّ وضع “قضية” في متحف، يعني طي صفحتها واعتبارها من الماضي. وهو ما لا ينطبق على الشعب الفلسطيني الذي تتواصل في حقه الجرائم. ولا ينبغي أن ننسى الخطاب الفلسطيني الذي يرفض تقمّص “دور” الضحية، وما يترتب على اتخاذ “موقف الضحية” من عقد خطيرة تسيطر على الوعي الجماعي لشعب ما وتحدّ من فعاليته.
جرأة متجددة
لا يعد “المتحف الفلسطيني في برلين” في جرأته استثناءً في أعمال كالدن السابقة. إذ إنّه تطرّق أيضاً في تجهيزاته الى هيمنة الإعلام وكليشيهاته، مثل عمله التركيبي “سيارة المؤامرة”، و“ليلة الشائعات الطويلة” التي تناولت الرواية الأميركية لأحداث 11 أيلول. في “ليلة الشائعات” مثلاً، تعرض شاشة الفيديو سيلاً من “الشائعات” على مدار ساعات متواصلة عن حقيقة أحداث 11 أيلول، وما أخفته الرواية الأميركية الرسمية.
في “قنابل مضحكة”، يسخر كالدن من القنابل “الذكية” وأجواء الحرب على العراق. وفي عمله “Near East Side Gallery” (صالة عرض قريبة من جدار برلين سابقاً) يقدّم كالدن مُجسّماً للجدار الإسرائيلي... ما يكسب دلالات مضاعفة حين يشبّهه بجدار برلين ورمزيته التي ترسخت في الوعي العام. يلعب كالدن في أعماله على كليشيهات الإعلام والقوة، ومعظمها تقريباً ضد العولمة، وبهذا المعنى تشكل فلسطين له ساحة مواجهة لهذه القوى التي تهدد مستقبل الإنسان.
أقام كالدن المولود في كاسل عام 1969 معارض شخصية عدة، وساهم في معارض جماعية، وصمم بعض الأماكن العامة في برلين. ويبدو، بطريقة ما، امتداداً لفنان من طراز مواطنه جوزيف بويز الذي يجادله كالدن في أحد أعماله ولا يخفي إعجابه به. هل يمرّ عمل هذا الفنان الألماني الشاب على سلام، أم سيثير “المتحف الفلسطيني في برلين” “فضيحة” قد تحاصر الفنان الألماني المشاكس، وترميه باللعنة القاضية إذ تتهمه بـ“معاداة الساميّة”!