سليمان الشيخ
من منّا لا يتذكّر حنظلة، الطفل العابث والمتأمل الذي رافق صباحاتنا الصعبة على امتداد سنوات طويلة كأنها من زمن آخر؟ سبعون عاماً مضت على ولادة ناجي العلي، الفنان الفلسطيني الذي طبعت رسومه الوجدان العربي المعاصر. و19سنة مضت على اغتيال رسام الكاريكاتور المشاكس الذي واكب بمبضعه ربع قرن من التاريخ العربي الصاخب والمثخن بالجراح.
وُلد العلي في قرية الجليل عام 1936 لينزح بعد النكبة إلى مخيم عين الحلوة حيث استكمل تعليمه في المخيم. كان مشاكساً من الدرجة الأولى، لم يوفّر الأنظمة العربية وأجهزتها التي «هجاها» في رسوماته بسخرية مرّة، فكان دوماً «وجبة طيبة» للسجون. حوّل فنّ الكاريكاتور سلاحاً فعّالاً في معركته ضدّ القهر والظلم، وترسّخ في الذاكرة الشعبية وقلوب الشعوب العربية. التحق بمعهد الفنون في لبنان، لكنه لم يمكث فيها أكثر من ثلاثة أشهر، إذ لاحقته الشرطة بتهمة الانتماء إلى حركة القوميين العرب. وفي العام 1961، التقاه غسان كنفاني في مخيم عين الحلوة، فأُعجب برسومه واختار منها أربعة ليرفقها بمقال تعريفي عنونه «ينتظر أن نأتي»، ونشره في مجلة «الحرية» التي كانت قد صدرت حديثاً في بيروت آنذاك. هكذا بدأ العلي يتكرّس رساماً كاريكاتورياً حاداً ولاذعاً عبّر عن معاناة الفلسطينيين، واختصرها برسوم صارخة ونافرة ذات صراحة صادمة. سافر إلى الكويت عام 1963 حيث عمل رساماً ومحرراً ومخرجاً صحافياً في مجلة «الطليعة» الكويتية، وفي تلك الفترة وضع رسوم رواية «العبيد» لغسان كنفاني التي نُشرت مسلسلة في المجلة، وعُرفت في بيروت باسم «اللوتيس الأحمر الميت».
رسّخ ناجي العلي نشاطه الإبداعي في فن الكاريكاتور وأصبح رسمه في صحيفة «السفير» اللبنانية يومياً اعتباراً من العام 1974 بمثابة بوصلة ترصد التحولات السياسية في العالم العربي. بالطبع، لم تُرضِ هذه الرسمات جهات عدة، إذ وجدها كثيرون حادة وقاسية تجاه بعض المنظمات أو الأنظمة العربية وسياساتها فتحوّلت كل رسمة قنبلةً موقوتةً تهدد بالانفجار عاجلاً أو آجلاً في وجه صاحبها.
رسوم ناجي نشر جزء منها في حياته، في ثلاث ألبومات (1973 ـ 1976 ـ 1985)، فيما وضع أكثر من 40 ألف رسمة. أقام معارض فنية عدة وحاز جوائز عربية وعالمية منها جائزة «قلم الحرية الذهبي» من الاتحاد الدولي لناشري الصحف في باريس في عام 1988، وكان أول عربي يحصل على هذه الجائزة. انتقل العام 1985 للعمل في صحيفة «القبس» الكويتية التي كانت تصدر من لندن، وهناك توالت عليه الضغوط للتخفيف من حدة نقده وتعرّضه لبعض الرموز السياسية العربية. لكن العلي لم يهادن، بل استمر في رسم ما كان يعتقد أنه الأنسب لمصلحة شعبه وضميره. وجاءه القاتل المأجور ذات يوم من تموز 1987، عندما كان العلي يتوجّه إلى مقر عمله متأبطاً رسماته الكاريكاتورية. سقط «حنظلة» في الشارع اللندني مضرّجاً بدمائه، وبقي في المستشفى غائباً عن الوعي حتى توفي في 29 آب عام 1987.
أُنجزت عن ناجي العلي ثلاثة أفلام سينمائية هي: «مسيرة الاستسلام» (1981) من إخراج محمد توفيق التي ارتكزت على رسومه الكاريكاتورية، وتناول المشهد السياسي في العالم العربي بين 1973 و 1979، وانعكاسه على القضية الفلسطينية. أما الفيلم الثاني فهو روائي طويل بعنوان «ناجي العلي» (1992) من إخراج عاطف الطيب وبطولة نور الشريف، تمحور رغم اختزاليته حول شجاعة هذا المناضل في تناول الرموز السياسية الرسمية في العالم العربي. فيما يصوّر «ناجي العلي ــ فنان صاحب رؤيا» (1999) مسيرة ناجي العلي الشخصية والإبداعية، بدءاً بولادته في الجليل حتى اغتياله في لندن. ويحاول أن يسلط الضوء على العوامل التي صقلت موهبته وأسلوبه وشخصيته، فكان هذا الفنان الذي اختزلت رسومه وحياته معاناة الشعب الفلسطيني، وكل مواطن عربي يعيش تحت وطأة الظلم والقهر...