رلى راشدبعد مرور أيام على الاعترافات التي أدلى بها الكاتب الألماني غونتر غراس حول انخراطه في الجيش أيام الحكم النازي، لم تستكن العاصفة بعد في ألمانيا وأوروبا عامة. إلا أنّ صاحب «طــــبـــل الصـــفيح» اســـتغرب أن يثير هذا الـــفصل مــن حـــياته كل هذا السخط. غونتر غراس معتاد إشعال الحرائق... لكنّ الأديب الألماني الذي حاز جائزة “نوبل للآداب” عام 1999، ذهب هذه المرة أبعد من الحد المقبول في بلاده، وربما في العالم. فقد طالع مواطنيه بسيرة ذاتية تصدر قريباً بعنوان “أثناء تقشير البصل”، يستعيد فيها ماضيه النازي! وهذا ــ كما نعرف ــ خط أحمر في الوعي الجماعي الأوروبي، والألماني على وجه التحديد.
عقدة الذنب
نعم غونتر غراس كان جندياً في الوحدات الخاصة للجيش الألماني Waffen-SS. كان ذلك في شتاء عام 1944، خلال مراهقته... لكن النبأ كان كـــــافياً لإحداث صـــــدمة فــــي الرأي العــــام الألماني. وبعد مرور أيام على الاعترافات التي أدلى بها لجريدة “فرانكفورتر ألجماينه تســــايــــتونغ” في معــــرض الـــترويج لــــروايــــته الوشيكة الصــــدور، لـــــم تستكن العاصفة، بل إن حدة الــــنقـــاش تزداد يوماً بعد آخر... وبدا وقع الصدمة قــــوياً على الأوساط الأدبيّة، وهي تتلقّف خبر انخراط غراس، ضــــمير ألمانيا بالـــــنسبة إلى كـــثيـــــرين وواحد من أبرز الشخصيات الثـــــقافية والأدبــــية في ألمانيا والعالم، فــــي الجيش الألماني أيام الحكم النازي.
من الغريب أن يكون صاحب رواية “طبل الصفيح” قد احـــــتفـــــظ بهذا السر الدفين قرابة ستين عاماً، هو الأديب اليساري الذي عمل في كتاباته ومعاركه الفكرية على مصالحة ألمانيا مع ماضيها الصعب. والمعروف أن جزءاً أساسياً من أدبه يقــــــوم على فكرة أساسية هي التواطؤ مع النازية وعقدة الذنب المترســـــخة التي نتجت منه. صحيح أن انتماء غراس الى “الشبيبة الهتلرية” معــــروف منذ زمن، لكن هذه المعطيات الإضافية التي قرر الكشف عنها في كتابه الجديد، ســــتُلقي بظلالها على تلك القامة الأدبية الاستثنائية، وتدفع بألمــــانيا مجددا الى مواجهة “شياطينها” الكامنة في اللاوعي الجماعي.
من خلال حديثه الى الصحافة، وتسليطه الضوء على تلك الحلقة المفقودة من تاريخه الشخصي، استبق صاحب “القط والفأر” ما سيكتشفه القراء في أحد فصول سيرته الذاتية “أثناء تقشير البصل”، التي نقّحها مع زوجته أوتي خلال الربيع الماضي في إسبانيا، على أن تصدر مطلع أيلول المقبل. في السيرة يفرد الكاتب حيزاً للحديث عن تلك الحقبة القاتمة من ماضيه التي تزامنت مع أفول الحرب العالمية الثانية. يبدو أن ذلك السر أثقل ضميره طويلاً، مما دفعه أخيراً الى التحرر من عبئه بالكتابة: “دفعني صمتي طوال هذه السنوات الى الكتابة. كان ضرورياً أن تطفو هذه المسألة على السطح”.
يشدّد غراس في مقابلته، على أنه لم يكن يعي خلفية التحاقه بالجيش متطوعاً، في الخامسة عشرة. كان هدفه من الانخراط في المؤسسة العسكرية، مثل الكثير من مراهقي جيله، التفلّت من أسر الحياة العائلية وقيود المجتمع، وأغرته الخدمة على متن غواصة حربية... إلا أنه وجد نفسه في الوحدات الخاصة، ولم يفهم ذلك إلا بعد فوات الأوان. “ربما انطوى هذا الأمر على شيء من الجنون” يقول. ثم يردف: “لم أطلق في تلك الفترة عياراً نارياً واحداً (...) أما بعد الحرب فغمرني إحساس بالذنب والخزي”.
أفول مرجعية أخلاقية
لكن تبريرات غراس لم تقنع الوسط الثقافي الألماني الذي يتساءل عن سبب انتظار الكاتب كل هذا الوقت للبوح بالحقيقة... ويرى كثيرون أنه فوّت فرصاً عدة للقيام بذلك طوال مسيرته الحافلة بالمحطات الأدبية والسياسية. “لقد انتهت مدة صلاحيته كسلطة أخلاقية”، هذا ما كتبته إحدى الصحف الألمانية التي وقفت دائماً الى جانب غراس في مواقفه وأفكاره السياسية... هو المعروف بمواقفه الراديكالية التي دفعته الى الاستقالة من الحزب الاشتراكي الديموقراطي في تسعينيّات القرن الماضي. حتى ليصح اختصار وضعه الحالي بتحوير عنوان رواية مشهورة لمواطنه هينريش بُل : “شرف غونتر غراس الضائع”! حتى مايكل يورغز المتخصص في حياة غراس وأدبه، استغرب هذا الاعتراف المتأخر، وعبّر عن «خيبته الشخصية”، ووصل به الأمر الى الحديث عن “أفول مرجعيّة أخلاقية”. واستعاد ناقد ألماني الخطاب الذي ألقاه غراس في استوكهولم لدى تسلمه جائزة نوبل، حين ذكّر أنه آت من “بلاد أُحرقت فيها الكتب ذات يوم”. وتساءل: “كيف كان يمكن أن يكون وقع كلماته يومذاك، لو أن ألمانيا كانت تعرف آنذاك أن ابنها أخفى عنها ماضيه النازي؟”. فيما تشكّك ناقد آخر بنيّات غراس ورأى أن الاعترافات عملية ترويج مدروسة لكتابه الجديد. أما الكاتب الموجود في الدانمارك، فقد استغرب أن يثير هذا الفصل من حياته كل هذا السخط: “كنت آنذاك في الخامسة عشرة، وفي الكتاب أمرّ سريعاً على هذه المسألة. انتظروا على الأقل حتى قراءة الكتاب”.