تواصل صفحة “ثقافة وناس” نشر رسائل الأصدقاء بالكلمة والصورة. ويتصدّرها نصّ للمسرحي روجيه عسّاف، عنوانه الأصلي بالفرنسية “مجرد اختلاء وتأمل وصلاة”... ولعلّه الحلقة الأخيرة من سلسلة “إيميلات” وجّهتها جماعة “شمس” من بيروت خلال العدوان، الى أصدقائها وزملائها في العالم، وحملت عنواناً موحّداً: “نحن بخير، طمئنونا عنكم”.

قف مستقيماً عند أعلى نقطة من العالم

روجيه عساف

لا أملك من ماضيّ سوى نصف ذاكرة. هذا النصف أنثى حبلى بأطفال لن يولدوا أبداً، أطفال أعرف حكايتهم، يرددون بلا صوت أغنيات الزمن الغابر.
عددهم 350 تقريباً، أولئك الأولاد الذين فاجأهم “مطر الصيف” ورحلوا من أجلي، بين يومي 13 من الشهر (13 تموز و13 آب)، لا أملك ما أعطيهم سوى فتات صلوات، هم الذين وهبوني أثمن الهدايالقد وهبوني ذاكرتهم، ذاكرة أرحب من العالم الذي تراه العين. كشفوا لي أن أفضل ما فيهم لم يبصر النور بعد، لأنه سيولد مع أفضل ما فينا. أبصروني لبنان كما أنجبوه. تأمّلته وأحببته، وما عدت أرى شيئاً بشعاً في إنسانيته.
في أي عمر تدخل المدينة مرحلة البلوغ ؟ الدماء التي تشرّ من بطنها بين حين وآخر، هل يمكن اعتبارها علامة؟ أيسعها الإنجاب بلا آلام؟ تلالها المنتفخة هل تكتنز حليب الأمومة؟ ها أنذا عند سريرها، متربصاً بأدنى إشارة في الغيب. إن الانتظار له مذاق الملح والحجارة وعرق الصيف.
الحياة التي يعبر شريطها ببطء، تترك للأموات أن يرشحوا بين الظل والليل. وأنا لا أملك إلا صلاة تبحث عن مدارها في ساعة السماء.
أنت الذي تعتقد بأن دينك مختلف عن ديني، أتظن أن باستطاعتك التمتّع بالضوء من دون أن تتقاسمه مع الآخرين. إنْ أخذت المدينة فلن تغنم موتاها، إن احتللت الأرض فأنت لن تحظى بنجومها، إن أخذت حياتي فأنت لن تفوز باسمي.
أنت الذي تعتقد بأننا نشترك على اختلافنا بدين واحد، أنت الذي تعتقد بأن الأشجار تتعبد لإلهنا نفسه، ألق ِبظلّك على ظلي، لتطأ رجلاك دربي، وقف مستقيماً عند أعلى نقطة من العالم.
لا أرغب من السعادة سوى الطريق التي تقود إليها.
لا صلاة لي سوى ذاك الباب المفتوح على سماء لا تتجزأ.


الأحلام تشظّت يا سوزان

إبراهيم توتونجي

أضعت الحكمة يا سوزان. تلك التي في حلقي، تغرغر، تتهدج، تتسحب، تتفتت... روح مخنوقة. تصرخ. احاول ابتلاعها، كالريق اعيدها الى الداخل. أصم أذنيّ عن صراخها. أسجنها، كالفكرة أحفر لها دهليزاً في الرأس ونفقاً في القلب. لكنها تعود. تطرق الأبواب. تمد أصابعها من بين القضبان. تتشنج الأصابع وتتراخى. الروح تتلاشى يا سوزان، وأنا فقدت الحكمة.
كل هذا الموت في بيروت. كل هذا الدمار. النوارس لم تعد تحط على رصيف المرفأ. الأطفال طارت دُماهم ودماؤهم عن الشرفات واحترقت. وقفوا على الشرفات يناظرون الدولاب البعيد في مدينة الملاهي. ينتظرون نورساً يغادر الرصيف ليحملهم الى هناك. وبدل النورس، جاءت القذيفة. شطرت النورس والدولاب الكبير والصغار. تشظت الاحلام يا سوزان، وتأكدت أكثر أنني فقدت الحكمة.
وتلك المنارة. وذلك المقهى، عند الصخرات التي انتعلت مخملها الأخضر الطحلبي وفلشت الملح على كعبها، وقرص الشمس الذي غفا على طاولتنا، وذلك العصفور... هل تذكرينه؟ الأزرق الذي سرقه البحر، أخفاه اللون، قبل أن نتمكن من حبسه في عدسة الكاميرا... وكنت يا سوزان كما البدر. صبيحاً مستديراً، كان وجهك، ولا يزال في مخيلتي كذلك. كما كاسة الآيس كريم المثلّجة. هكذا تقول نازك الملائكة التي سرقت ديوانها من مكتبة المدرسة، في يوم شتوي متلحّفاً بمعطف ذي جيوب واسعة. كنت طفلاً وكان زملائي في الصف يلعبون كرة القدم في الفسحة، تحت المطر. اخبرتك القصة كاملة، آنذاك، في المقهى البحري الجميل، عند المنارة. في آخر شمس لي في بيروت. أخبرتك قصصاً كثيرة، وأخبرتني عن الأمل والايمان. شددتك. سرقتك الى هضاب الأفكار وركبنا زوارق الجنون ونزلنا أودية الحكايات. اردتك معي. نقفز فوق الفكرة ونعود اليها. نختبئ وراء العقيدة ونقف فوقها. نرسم على الجدران الرمادية للموروث والتقاليد فراشات ملونة وأجنحة نوارس ومدن ملاه. كنت معي، وسرعان ما انتهت رحلة الكلمات والجنون، ليلتفت اليّ الآيس كريم ويقول: "حسناً، الآن دوري، أصحبك معي في جولتي. في مدني. على أجنحة نوارسي”. وذهبنا. كنت متردداً. أخاف أفكارك. هضابك وجبالك ووديانك. أخاف أن أعشق حروفك فأستعيد الحكمة. وارتحلنا الى بيوت شعرك المخبأة في غابات تختزن ضوء الصباح الأبيض الشفاف. قابلنا تلك القصيدة “دموع الاسماك” ذلك الذي “يضع أذنه على صدفة قلبها، ليصغي، الى البحر”. خفت من طفوليته. عذوبته. اردت المغادرة. وحين فعلت، كان يرمي لي بما أحببت. كان يكمل: “بعينين مغمضتين، يراها، طفلة ترسم بدموعها الدوائر في ماء روحه، وتسأل: هل تبكي الأسماء، مثلنا، في الأعماق، حين تكون وحيدة وحزينة؟”. اردت الرجوع اليه. شددتني. قلت: يكفي. كيف؟ ألست أنت قائلة ذلك الكلام؟ اليس شعرك يكشفك؟ ألست تختبئين وراء ألوان قوس قزح والبيوت المصنوعة من الحلوى، وكل ذلك التفاؤل، وكل ذلك الايمان، وكل ضوء النهار الذي يحفّ اوراق الغابة ويسحرها محوّلاً اياها الى أكفّ صبيان وبنات رضّع صغار...؟ ألست تدارين خلف ذلك كله فقدان الحكمة ودموع الاسماك المختنقة؟
يا سوزان، الا ترين النوارس في السماء تبكي الشرفات المحروقة؟ يا سوزان، تهدمت بيوت الحلوى وأضعت الحكمة.
“ما عادت لي رغبة في أرض. بلاد الله ما عادت واسعة، الأرواح أيضاً ضاقت، كأحذية قديمة”.
من “كوكب أحمر”، افتتاحية ديوانك “مصباح كفيف”.
(كاتب وصحافي ــ دبي)


كم الوقت عندك؟

محمد خير

كم الوقت عندك؟ الآن وأنت تقرئين هذه الرسالة، أهو صباح مظلم بالدخان؟ أم ليل تضيئه الصواريخ؟
وكيف مرت هذه الرسالة؟ بينما هذا الحصار قفز فجأة وانحشر ــ بجسده الضخم – بيننا حتى ابتعدنا. أرسل دبابيره لتكمن في فراغ غرف النوم، تئز فجأة لتوقظنا بعرق بارد. تلهو كقطعة من ظلام يسبح في ظلام، وتعبث بين عينيّ حتى هنا والآن. حتى وأنا محاط بصخب القلق، فترتبك أصابعي حين أكتب الرسالة.
لا أعرف كيف أمزج التشجيع بالشفقة فالطمأنة. من دون أن أغمض عيني، أرى وجهك ِوأنت تقرئين. فأعيد حساباتي وأمحو ما كان منها متخاذلاً وأؤجل ما كان منها متفائلاً.
أكتب إليك، في كل حالاتك، حبيبة، و مدينة ورفيقة وجسداً ينحني ليجمع بقايا الأماني من تحت الأنقاض. أرفض أن أستضيف في جسدي فرحاً مرهوناً بدقة تكنولوجيا القاذفات ورحمة المدافع، ومصادفة الجغرافيا ولعبة التوقيت.
أرفض أن أقامر بمستقبل، أياً كان شكله ومكانه. أو أن أشتري ورقة يانصيب أو ألف ورقة. الاحتمالات تظل بلا نهاية، ها أنا حتى في الخيال أعجز عن رفع عينيّ في عينيك ِلأنني لا أستطيع أن أعدك ِبشيء.
هذا الحصار لا ينفك يعود، كأنه يخشى أن ننساه. يشم البارود ثم يلهو بين الخرائب. يركل قطع الركام ويصيح مع أشباح الليل. يقلب جفونه الحمراء فيستيقظ الأطفال صارخين.
أيها الحصار اطمئن! لن ننساك فاطمئن! ارحل ولا تعد، فلا أنت تسمح بالفرح ولا قادر على منع الرسائل. كل ما تستطيعه هو احتجاز عقارب الساعات بكفيك القبيحتين، هكذا تحاول أن تعطل المستقبل... وأنتِ دعك ِمنه وأخبريني: كم الوقت عندك؟
(شاعر وصحافي ــ القاهرة)


فقط ابقوا كما نعرفكم

جليلة بكار، الفاضل الجعايبي، الحبيب بلهادي

صفق الجمهور الفرنسي طويلاً لمسرحيتنا الجديدة “خمسون” لدى عرضها في صالة “الأوديون” الباريسية أول الصيف، لكن أبواب مسارحنا ومهرجاناتنا في تونس ظلت موصدة في وجه عمل ذنبه الوحيد أنّه يواجه جراح المجتمع من دون تنميق أو مجاملة. وما زلنا ننتظر حتى اليوم قرار لجنة التوجيه المسرحي التي تمنح تأشيرة العرض... أي إن عملنا ليس ممنوعاً في تونس، لكنّه ليس مرغوباً فيه في الآن نفسه. قلنا لا بأس، سنذهب إلى بيروت! لبنان إحدى الدول العربية النادرة التي بوسعها احتضان هذه التجربة، والتفاعل معها، تماماً كما احتضن الجمهور اللبناني أعمالنا السابقة.
وكان هذا العدوان الشرس الذي يهدف الى إطفاء المنارة الجميلة على المتوسط. فوضعنا مشاغلنا على الرف... وهي مجرد هموم فنانين تحاصرهم أجهزة الرقابة في بلادهم، لنرتمي في أحضان الفاجعة التي تعيشون. الفن بإمكانه أن ينتظر... لكن أين أنتم الآن؟ نريد أن ننضم إليكم... هل تشجعنا على المجيء؟ كيف يمكن الوصول الى بيروت؟ قصف المطار عشية وصولنا لبحث إمكانات تقديم “خمسون” حسب ما اتفقنا عليه معك في باريس. ليتنا وصلنا قبل الطائرات المغيرة لنكون معكم نكون معكم في دوامة العنف والمقاومة الأبية... لا ينفع الندم، ولا الكلام يجدي. فقط ابقوا كما نعرفكم... لأن هذا الكابوس سينتهي، وسنعود إليكم قريباً. وأنت أيها الصديق الغالي، اعمل لوطنك كأنك تعيش أبداً وتمتع بحياتك كأنك تموت غداً...
(تونس)


... جاء دوري لأواسيك

رندا شعث

أشعر بالغضب... بكابوس محلّق طوال الوقت. منذ أيام فقط، كتبت لي تساندني. تسألني عن أهلي في غزة، تواسيني وتطلب مني الشجاعة لمواجهة ما يحدث هناك. حكيتُ لكَ عن أختي الصغيرة ذات الأعوام الخمسة التي كانت تلهو على الشاطئ عندما شاهدت عائلة تُباد بأكملها باستثناء طفلة أكبر منها قليلاً.
وبعد أيام حُبست في المخبأ أسفل المنزل، تحت القصف المستمر ليلاً ونهاراً لأسبوع من دون كهرباء ولا ماء. بقيت هي وأمها لأن أبي حاول لثلاثة أيام العودة الى دياره التي أصبحت بين ليلة وضحاها داخل منطقة عسكرية مغلقة.
بعد أسبوع، استطعت أن أتصل بهم لتقول لي أختي إنهم «أخذوا الشارع والشجر». خرجت أختي وزوجة أبي من مخبئهما بعد أسبوع ليجدا الشارع المحيط بالمنزل وقد اقتلعت الجرافات الإسرائيلية أشجاره وأبقت بالمصادفة على البيت!
من هم هؤلاء الذين احترقوا وهم ينزحون قهراً من ديارهم؟ ماذا كانوا يفعلون؟ فيمَ كانوا يفكرون؟ بمَ كانوا يحلمون؟ أجاء دوري لأواسيك وأطلب منك الشجاعة؟
الحقيقة أني أستمدّ شجاعتي منكم. ردّ فعلكم ملهم. أبي خرج من تحت الحصار ليستأجر شقة يجعلها مكتباً له. كريستين تواصل الاستعداد لإقامة المنتدى المقبل في بيروت، وأنتم تصدرون جريدة جديدة. أنا بدوري سأنجح في الخروج من انهياري. أستمر لأكمل التصوير، لأستكمل الصورة. أحاول استعادة اهتمامي بالحياة اليومية على أرصفة القاهرة.
وإلى لقاء قريب.
(مصورة فوتوغرافية ــ القاهرة)