عاد مظفّر النوّاب على حين غرّة... هدير الطائرات الاسرائيلية أيقظ قريحة الشاعر العراقي، سليل الجمر والشجن، وهو على فراش المرض، فخرج عن صمته وكتب قصيدة موجعة، من النوع المباشر الذي صنع شهرته من دون أن يختصر تجربته الشعرية.
دمشق ــ خليل صويلحانتبه! منطقة شعرية محظورة ومحفوفة بالمخاطر”، بهذا التحذير للقارئ يمكننا اختصار تجربة الشاعر العراقي مظفر النوّاب الذي عاد الى دائرة الضوء أخيراً بقصيدة عنيفة كما عودنا في شعره السياسي المباشر: «كهرمان يا كهرمان/ في يوم واحد تتناقص ثلاثة بلدان/ طهران تقضم من كبد البصرة/ ومن إبطيها تُسحل غزة/ وعلى أربعة عشر صليباً يتخوزق لبنان”...
تجربة مظفر النواب عمرها نصف قرن من الرفض والمجابهة وهتك الأقنعة الرسمية، غاص خلالها في أقصى حمم اللغة وبلاغتها الجارحة، من دون أن يدير ظهره مرة واحدة لجمهوره. فهو “شاعر الكاسيت المهرّب”، أول ظاهرة في شعر العامية العراقي تمتد بأجنحتها إلى تخوم العالم العربي والمنافي. كانت قصيدته الأولى “الريل وحمد” التي كتبها بين عامي 1956 و1958، الشرارة الأولى لاعلان ولادته الشعرية من رحم “الأهوار”، إذ كان يعيش أول تجربة نفي في بلاده. هناك في الجنوب العراقي المهمل، اكتشف جرساً آخر للغة، فكتب بلهجة الأهوار قصيدته الأولى، بعد مكابدات طويلة في السجن، انتهت إلى حكم بالسجن المؤبد في العام 1963.
لكنه تمكن من الهرب عبر حفر نفق أخرجه من أسوار السجن، ليمضي حياته في المنافي. وبعد طول ترحال، استقر في دمشق على خطى الجواهري والبياتي. الا أنّ صاحب “وتريات ليلية” اختار العزلة. فهو بالكاد يخرج من منزله في ضواحي دمشق ليقضي وقتاً في ركنه المعتاد في “مقهى الهافانا” يقرأ صحفه، ويتأمل العابرين. في العودة إلى بدايات تجربته، سوف يجد قارئ، أو “مستمع” مظفر النوّاب، صوتاً شعرياً استثنائياً، تشبّع بالتراث الشعبي العراقي وأصوات المواكب الكربلائية وموسيقى الأهوار وأغانيها الحزينة... ولن يجد صعوبة في وضع هذه التجربة في سياق الحداثة. فإذا كان السياب رائد الشعر العربي الحديث، فإن مظفر النوّاب يُعد “رائد الحداثة العامية”، بدخوله إلى مناطق لغوية بكر تمزج التراث الشعبي بالأسطورة المحلية، مثلما تنطوي على طاقات روحية متأججة، ومنجم غني بالإحالات الوجدانية، سواء في قصائده العامية التي غناها كبار المغنين العراقيين أو في قصائده المكتوبة بالفصحى. صاحب “وتريات ليلية” ظل على الدوام يغذّي شعره باللغة الملتهبة، اللغة التي تبطن حزناً أبدياً، وسم تاريخ بلاد الرافدين وضفاف دجلة وتحريضاً على الطغيان. يعترف سعدي يوسف بأنه يضع جبين شعره على أهداب “الريل وحمد” حاسباً إياه نموذجاً خارقاً ومدهشاً في تاريخ العامية العراقية.
الحياة القلقة والمضطربة طبعت قاموسه الشعري بنبرة خاصة، لا تتوافر في تجارب غيره. أما أحاسيسه القومية الصاخبة، فألهبت مشاعر جمهوره بالغضب أينما حلّ. كأنما هذا الشاعر (72 سنة) سليل الجمر والشجن. مظفر النوّاب الشاعر والرسّام والمغني يرقد اليوم على سرير المرض وحيداً، لكن غضبه لم يشحّ... فها هو يرفع الراية مع المقاومة في الجنوب اللبناني، حتى الشهقة الأخيرة.