بيار أبي صعب
الثقافة في لبنان تحاول اليوم أن تستفيق من ذهولها، أن تبحث لنفسها عن معنى ودور ووجود. وسط ضجيج المعارك لا يعود للكلمات من معنى... بل لنقل إن معناها يتبدل ويتحوّل ولا يبقى نفسه. وظيفة اللغة مختلفة في أرض المعركة. والثقافة تبدو بلا جدوى، إلا إذا اختارت الالتحاق بخنادق القتال.
لهذا السبب أساساً لاذ معظم الأدباء والشعراء بالصمت في بيروت، فيما تعالت أصوات أقرانهم في العواصم العربية الأخرى. حمل كتّابنا جراحهم الحميمة، شعورهم باللاجدوى ربّما، ونصيبهم من الحسرة والخوف، ودخلوا كل الى صومعته أو سجنه الاختياري.
وغرقت صفحات الجرائد تحت ركام من الكلمات الميتة، والخطب المكررة، وحطام الحروب الماضية التي تحجب بصيص المعنى الشفيف. نصوص قليلة أومضت هنا أو هناك، إنّه الهمس حين يعلو فوق صوت المعركة! أليس كذلك يا عمّ عباس (بيضون)؟ إنّه صراخ المتألم الغاضب. أليس كذلك يا عمّ إلياس (خوري)؟ روجيه عسّاف، في رسائله (بالفرنسيّة) الى أصدقائه في العالم عبر الإنترنت، يكاد يكون مؤرخ هذا الشهر الدموي المجنون. ومثله رشا سلطي في يومياتها (بالإنكليزيّة) التي دارت حول العالم وتناقلتها قوائم إلكترونية لا تحصى... وصولاً الى إسرائيل.
لا بد من التوقف عند مدوّنة الفنان مازن كرباج، بين مواقع ومدوّنات عدة أخرى، تعلن (تؤكد؟) ولادة ثقافة من نوع جديد. ثقافة تقوم على وسائط مختلفة، وتعتمد تقنيات ومفردات ولغات وأشكال تعبير أخرى. أبلغ مثال على ذلك رسائل الفيديو التي نشرها موقع جمعيّة “بيروت دي سي”: “من بيروت... إلى يلّي يحبونا” (إخراج جماعي)، “الوقت الميت” (غسان سلهب). رسائل بالصوت والصورة من تحت القصف الى العالم الحرّ. بعض المؤسسات والجمعيات الثقافية انخرط ــ منذ الأيام الأولى ــ في عمليات الإغاثة ومساعدة المنكوبين. «بيروت دي سي»، و«أشكال ألوان»، و«زيكو هاوس»، و«حلم» التي تدافع بجرأة عن حقوق المثليين في لبنان...
تحت القصف لا تعود اللغة نفسها، ويصبح الحياد من “التابوهات”. ومع ذلك من حق المبدع أن يلوذ بالصمت... ولعلّه قي صمته وحياده أجمل وأبهى وأقرب الى نفسه في حالات كثيرة. اليوم تستفيق المدينة، فنبحث عن نثارنا بين الركام، نتحسس كلماتنا القليلة الباقية. أي دور تستطيع الثقافة أن تلعب بعد أن انتهت المعركة؟