صبري مدلّل آخر شيوخ الطرب في سوريا. بدأ صبياً في تجويد القرآن، قبل أن يدرس المقامات والغناء على يد الملحن الشهير عمر البطش. برع في الموشحات والقدود الحلبية كما في الإنشاد الديني، وترك بصماته الشخصية على التراث العريق.في صبيحة يوم شتوي ماطر من عام 1930، توجه ابن الثانية عشرة بصحبة والده إلى شيخ الكتّاب ليتعلّم تجويد القرآن. وهكذا انضم صبري مدلل إلى حلقة الشيخ أحمد المصري في أحد مساجد حلب في حي الجلوم الشعبي، ليفاجأ الشيخ بعد دروس قليلة بحلاوة صوت الصبي. حتى إنّ المصلين كانوا يتوقفون لبرهة في فناء المسجد للإنصات إليه يرتّل سوراً من القرآن الكريم. في تلك اللحظة أدرك الشيخ أن هذه الموهبة تحتاج إلى فضاء أوسع، فاستأذن والد الصبي بأن يذهب به إلى الشيخ عمر البطش وهو أحد أشهر مؤسسي المدرسة الحلبية في الغناء. وعندما استمع هذا الأخير إليه وهو يردد الليالي، أصابته الدهشة من حلاوة صوت الصبي ووضوح نطقه لمخارج الحروف، فضمه على الفور إلى تلاميذه وراح يعلّمه فن أداء الموشحات وعلوم المقامات والأوزان. في هذه الأثناء، تعلّم العزف على العود لكنه آثر الآلات الإيقاعية ولا سيما الدفّ.
كان الاختبار الأول لصبري مدلل وهو يشق طريقه في عالم الإنشاد الديني أن يرفع الأذان في المسجد، فهذا الطقس هو بوابة العبور إلى فضاء الإنشاد. وكانت المدرسة الحلبية في الغناء تقوم على تقليد متوارث، يجمع بين قوة الأداء لدى المؤذن أو المنشد، والصوت الشجي العميق والمؤثر الذي يعتمد على العلم والمعرفة. من هنا نشأ أسلوب “التسميع”، إذ كان على المؤذن الشاب أن يصعد إلى المئذنة قبل أذان الفجر بدقائق، و ينشد عدداً من الأذكار والتواشيح. فإذا استيقظ أهالي الحي على هذا الصوت واستحسنوه، يكون قد نجح في الاختبار بامتياز ويجري الاعتراف بموهبته كمؤذن. هكذا صعد صبري مدلل مئذنة جامع “قسطل الحجارين” ليرفع الأذان خمس مرات في اليوم، قبل أن ينتهي به المطاف إلى "الجامع الأموي الكبير" طوال سبعين سنة متواصلة. ويذكر الحلبيون أنه في موعد أذان الظهيرة، كانت الشوارع المحيطة بالجامع الأموي تزدحم بالناس الذين يتوقفون للإنصات إلى صاحب هذه الحنجرة الذهبية.
بتأسيس إذاعة حلب في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين، انتسب صبري مدلل إلى فرقة الإذاعة وقدم وصلات من الغناء التراثي وبعض الأغاني الطربية، مما أغضب والده الذي خشي أن يتحول ابنه مطرباً، وليس منشداً دينياً فقط. اضطر عندئذ إلى هجر الإذاعة وتأسيس فرقة خاصة به، تقوم على إنشاد المدائح النبوية والأذكار الدينية وتحيي حفلاتها في المناسبات الخاصة والعامة. وفي مرحلة لاحقة، بعد شيوع صيته في حلب كلها، صار يدعى إلى إحياء" “سهرة السبت” وهي تقليد حلبي، تستضيف فيه البيوتات الكبيرة في المدينة منشداً أو مغنياً لإحياء ليلة في الأسبوع بحضور نخبة من “السميعة”. وهنا كانت فرصة صاحب "سبحان من صور حسنك” لاستعادة مخزونه من الغناء الأصيل مما حفظه من روائع سيد درويش والقصبجي وزكريا أحمد، وقد أضاف إليها بصمته الشخصية في الأداء والتلوينات اللحنية، من دون أن يخرج على تقاليد المدرسة الحلبية في الغناء. هذه المدرسة التي تميزت دائماً عن سواها بالعراقة والصرامة في بناء الإيقاع. ويلحظ في تجربة صبري مدلل مهارته في التجوال بين المقامات والارتجال والخروج المدروس على كل القواعد والضوابط التي يتسم بها الإنشاد الديني، سواء على صعيد نبرة الصوت أم في انتقاء الجملة اللحنية وكذلك في دخوله إلى فضاء الشعر الصوفي، وقصائد ابن الفارض على نحو خاص. وإذا كان مواطنه صباح فخري قد صدّر القدود الحلبية إلى العالم العربي، فإن صبري مدلل، مزج ببراعة نادرة بين القدود الحلبية والموشحات الأندلسية باعتماده المدروس لتاريخ الأنغام العربية الأصيلة وتطويرها بارتجالات عصية على التوصيف والمعاينة النقدية الدقيقة.
ثراء المدرسة الحلبية في الغناء وشهرتها وتميّزها عن المدرسة المصرية والمدرسة التركية، قادت عشرات الباحثين والدارسين الأجانب إلى التعرف عن كثب إلى أسرار هذه المدرسة وأصالتها جيلاً وراء جيل. كان بين هؤلاء الوافدين إلى حلب الباحث الموسيقي الفرنسي كريستيان بوخيه، وهو جاء بقصد توثيق أصوات مؤذني حلب. وعندما استمع إلى صوت مدلل، اكتشف على الفور أنه أمام خامة صوتية نادرة وجوهرة مخبوءة، ينبغي أن تخرج من محيطها الضيق إلى فضاء العالمية. ولشدة حماسته لصاحب هذا الصوت، دعاه إلى إحياء حفلة في باريس، فكانت نقطة تحوّل جذرية في حياة هذا المغني الاستثنائي، فقد خرج الجمهور الباريسي في تلك الأمسية مذهولاً، بعدما طالب صاحبها بإعادة إنشاد “أحمد يا حبيبي” أكثر من مرة. هذا النشيد لحنه الشيخ الجليل قبل حوالى ثلاثة عقود على طريقته الخاصة في مزج المناخ الروحي بلمسة تطريبية، أصابت من يستمع إليه بنشوة صوفية أخاذة. وتكررت التجربة مرة أخرى بدعوة من "مهرجان التراث العربي” في باريس في مطلع الثمانينيّات، لتطبع على أثرها آلاف النسخ من اسطواناته التي سجلت حقوقها باسمه.
لم يكن صبري مدلل، في حقيقة الأمر مهيأً آنذاك، وهو في ثمانينه، لمثل تلك الانعطافة في حياته. هو الذي اعتاد هواء حلب وأزقتها الشعبية ورائحة توابلها وعطورها. لكنه أمام غزارة الدعوات التي بدأت تنهال عليه من مختلف أنحاء العالم، وتصل إلى "دكان العطارة" الذي يديره، في وسط حلب القديمة، وجد نفسه أمام ورطة حقيقية، ولم يجد مناصاً من الموافقة والمغامرة، فقرر توسيع فرقته لتشتمل على تخت شرقي كامل، ترافقها فرقة من راقصي المولوية. وراح يجول العالم بطربوشه المميز، وصوته القوي الذي لم تخنه الأيام، بل زادته قوة وحلاوة، ليعود بعد كل جولة ناجحة إلى دكانه الصغير... كأن الشهرة الواسعة التي حققها لا تعنيه على الإطلاق... وكان أن اعتزل الغناء قبل خمس سنوات، تاركاً لابن أخته محمد حمادية إدارة الفرقة التي تحمل اسمه.


بين القدود والموشّحات والأذكار
القدود الحلبية عبارة عن أغنيات شعبية تناقلتها الأجيال من دون معرفة ملحنها. وهي منظومات غنائية أنشئت على أعاريض وألحان أي على «قدود» ومنظومات غنائية أخرى دينية أو مدنية. و“القدّ” نوعٌ من الموشّح يعود أصله الى الأغنيات الدينية التي كانت تغنّى خلال الحلقات والأذكار. ثم استُبدلت كلماتها الدينية بأخرى غزلية مع حفاظها على اللحن الأصلي. أي إنها بنيت على «قد» ـــ أي على قدر ـــ أغنية شائعة فاستفادت من شيوعها. ويعدّ الباحثون أن القد موشح خفيف من الدرجة الثانية، أخف وزناً وأسرع إيقاعاً. وهو يشبه الموشح في شكله الفني. ومن أمثلة القدود الحلبية، قدّ «تحت هودجها وتعانقنا/ صار ضرب سيوف يا ويل حالي» المقتبس عن أغنية دينية تقول: «يا إمام الرسل يا سندي/ أنت باب الله معتمدي». ويقال إن القدود الحلبية بدأت في حمص، لكن أهل حلب حافظوا عليها وطوّروها.
ومن أشهر مغنّي القدود صباح فخري وأديب الدايخ ومحمد بكري وصبري مدلل. ويمكن تمييز نوعين من القدود: القدود الشعبية، وهي منظومات غنائية قديمة متوارثة عن الأجداد، القسم الأكبر منها لا يعرف كاتبه أو ملحنه/ مثل: «عموري»، «يا حنينة»، «برهو»، «ربيتك زغيرون»، «يا ميمتي»، والقدود المستحدثة، مثل «يا طيرة طيري يا حمامة» لأبي خليل القباني، «سيبوني يا ناس» لسيد درويش، «الفل والياسمين» لصبري الجريدي، «نويت اسيبك» لكميل شمبير. أما أجمل ما غنيّ من القدود فهو “صيد العصاري ياسمك بني” و”تلعب بالمية ولعبك يعجبني”، “سكابا يا دموع العين سكابا” و “يا مال الشام يا لله يا مالي”. ومن أبرز ملحني حلب الكبار في هذا المجال عمر البطش والشيخ علي الدرويش وبكري الكردي.
وقد اشتهرت مدينة حلب السورية بفن الموشّح، وأفرزت شكلاً جديداً يختلف عن الموشح الأندلسي من ناحية البنية اللحنية أو البناء الشعري. وتميّزت الموشحات الحلبية بألحانها البسيطة حتى يسهل تداولها. وبذلك يمكن أن تندرج ضمن خانة الغناء الشعبي الراقي. وبرز في حلب ملحنون كبار للموشح، على رأسهم عمر البطش الذي لحّن حوالى مئة وثلاثين موشحاً هي من أجمل ما عرفه فنّ الموشح العربي .
أما الأذكار فطقس صوفي تؤدى فيه القصائد الدينية والمدائح النبوية والأدعية، بصيغة المقام، وتصاحبه قرارات مجموعة مؤديي الذكر، وتقام حلقة الذكر في الأضرحة أو المساجد أو البيوت، وتختلف تبعاً لشيخ الطريقة. فهناك الطريقة القادرية أو الطريقة الرفاعية وغيرهما.